ساهمت الثقافة ذات الطّابع البصريّ في عصرنا الحديث في توجيه تركيزنا على ما هو حصرًا مرئيّ وظاهر وماديّ التّجسّد، وجعلتنا لا نُعير انتباهًا لما يختبئ خلف ما هو مباشر من زوايا تصويريّة وأضواء، كما حوّلت إنتباهنا عن طبقات الصوت والموسيقى العميقة والتي تحدّد بتأنٍّ مزاج المشهد وتنبّه المشاهد لخطر داهم ما أو لاقتراب لحظة مميّزة خاصّة.
بدأت العلاقة بين الموسيقى والسينما في المنطقة النّاطقة باللغة العربيّة في الثّلاثينيّات.مع نهاية القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين ومع وصول صناعة التّسجيلات الصّوتيّة، شهد مجال التّسجيل الموسيقيّ طفرة في الموسيقيّين والمغنّين في ما سمّاه مايكل دينينغ 'انتفاضة الضّوضاء'. توجّهت هذه التّسجيلات إلى أوساط اجتماعيّة معيّنة دون غيرها وغالبًا ما كان يتمّ اختيارها من قبل مهندسي تسجيل موسيقيّ أجانب.
أدّى ظهور دُوْر العرض السينمائيّ إلى تغيير جذريّ في طريقة تقديم الموسيقى إلى الجمهور. إذ نتأمّل الأفلام الموسيقيّة المصريّة القديمة كأفلام عبد الحليم مثلًا، فنلاحظ كيف تمّ تقديم الموسيقى عبر الشاشة الفضّيّة ونجد تحوّلًا جدّيًا واضحًا نحو الاحتراف في تلك الحقبة لدى الملحّنين والموزّعين والموسيقيّين. شكّل ظهور أمّ كلثوم وأسمهان بالإضافة إلى نورهان وغيرهن/م كما سنرى لاحقًا في فيلم ' نورهان، حلم طفلة'، رابطًا وثيقًا بين التّمثيل والغناء كشكلين من أشكال الأداء الذي يتطلّب مهارات عالية ودافعًا صلبًا. وفي السّنوات الماضية تراجع إنتاج الأفلام الموسيقيّة ببطء حتى كاد يختفي وصرنا لا نشهد الكثير منه باستثناء بعض الأمثلة في إنتاجات الثّقافة الشّعبيّة أو ال pop-culture. متى تسنح لنا الفرصة إذن، في ظلّ هذا الوضع، لنشاهد أفلامًا حول الموسيقى من غرب آسيا وشمال أفريقيا، آخذين بعين الاعتبار العلاقة التاريخية بين الإثنين؟ كشخص مولع بالموسيقى ويعمل في مجال الصّناعة الموسيقيّة، واظبت لسنوات على ترقّب الأفلام المُنتَجة في منطقتنا والتي تركّز على الموسيقى والصّوت وتبرزهما وترفعهما إلى مصافٍ متقدّمة، لذا فإنّي أشعر بالامتنان للفرصة المثيرة التي تتيحها لي هذه البرمجة لاختيار بعض هذه الأفلام ومشاركتها مع جمهور واسع.
يجادل الكاتب والمنظّر الاجتماعيّ الشّهير جاك أتالي بأنّ 'للأصوات وتوزيعها تأثير في صياغة المجتمعات هو أكبر من تأثير الأشكال والألوان عليها'. 'ما الموسيقى إلّا ضوضاء منظّمة' يقول أتالي ويضيف بأنّ ' الصّخب والأنغام والنّشاز والتّشوّهات والقعقعة السّريعة والغموض والتشوّش والإيقاع والألحان المتآلفة إنّما تشير جميعها إلى مشاعر أو معتقدات معيّنة'. في بعض الحالات، فإنّ اختيارنا لأصوات معيّنة دون غيرها، ينعكس على القصّة التي نحاول روايتها؛ لذا فإنّنا سنجد داخل الأفلام المختارة، أصواتًا وقطعًا موسيقيّة تتشابك لتروي القصّة.
نجد في العالم النّاطق بالعربيّة تنوّعًا كبيرًا في أنواع الاستعراض البصريّ للمجتمعات في السينما وبناءً على ذلك، قمت بتنظيم عروض الأفلام ضمن أربع دورات زمنيّة، أو أربعة فصول إذا أمكن القول.
تنطلق هذه الفصول من ربيع الشباب وتمرّ بالتّجارب الشّجاعة لمرحلة البلوغ لتتحوّل بعدها إلى فترة الصّياغات السّياسيّة لمختلف أحداث الحياة وتنتهي طبعًا بالشّتاء الذي يخفت فيه ضوء الموسيقيّين وتغيب موسيقاهم وتتراجع شهرتهم بفعل تقهقر الذاكرة من جيل إلى جيل. تجول هذه الأفلام في العالم النّاطق بالعربيّة، من تونس إلى اليمن مرورًا بفلسطين ولبنان ومصر دون شك.
تعمّدتُ استخدام مصطلح العالم النّاطق بالعربيّة بدلاً عن مصطلح العالم العربيّ لأنّنا نجد في منطقتنا العديد من الأقلّيّات التي رغم نطقها باللّغة العربيّة فإنّها لا تعتبر نفسها عربيّة. من النّادر جدًا العثور على أفلام ينتمي صنّاعها/صانعاتها إلى هذه الأقلّيات فكيف بأفلام موسيقيّة من هذا الإطار؟ إنّ ندرة أفلام المخرجين/ات غير العرب/يات تثير التساؤل حول آليّات عمل صناديق تمويل السينما والفنون والثّقافة وتدعو للتّأمّل في كيفيّة توفير دعم أفضل للمبدعين/ات النّاطقين/ات بالعربيّة من غير العرب.
إن كنّا نرى العديد من النّساء اللواتي يعملن في مجال الغناء والتّمثيل فإنّ عددهنّ يقلّ في مجالات كإدارة التّصوير والإخراج وهندسة الصّوت أو كتابة السيناريو. لذا، تفتتح هذه البرمجة عروضها بفيلم للمخرجة التّونسيّة ليلى بوزيد ويتضمّن كل فصل من فصولها فيلمًا لمخرجة واحدة على الأقلّ.
تدور أحداث الفيلم الطّويل الأوّل، على حلّة عيني، خلال فصل الصّيف الذي يسبق اندلاع الثورات العربيّة ويروي قصّة فرح كالا، امرأة شابّة تحاول شقّ طريقها في المشهد الموسيقيّ في تونس. تحاول والدة فرح (التي لعبت دورها المغنية والفنّانة التّونسيّة السّاحرة غالية بن علي) ثنيها عن ملاحقة هذا الحلم، لأنّها بحكم خبرتها تعرف تمام المعرفة خطورة السّير في طريق كهذا. مع توالي أحداث الفيلم، تظهر الدّولة البوليسيّة وأنظمة الهيمنة، ليتأمّل الفيلم من خلالهما في السّلوكيّات الأبويّة داخل المجتمعات النّاطقة بالعربيّة سواء على المستوى المؤسّساتي أو على المستوى الفرديّ (حتّى في فترة ما بعد الثورات العربيّة).
يظهر في الفيلم الذي أخرجته وصوّرته ليلى بوزيد، أبطال 'غير مرئيّين' يقدّمون الصّوت والموسيقى ضمن فرقة تتكوّن من خمسة أعضاء من الموسيقيّين/ات الممثّلين/ات: بية مظفّر في دور فرح (غناء)، منتصر العياري في دور برهان (عود)، دينا عبد الواحد في دور إيناس (كيبورد وموسيقى إلكترونية)، بالإضافة إلى الأخوين مروان سلطانة في دور سامي (باص) ويوسف سلطانة في دور سكا (درامز). تعاون الجميع تعاونًا وثيقًا مع المؤلّف والعازف العراقي-البريطاني خيّام الللامي الذي ألّف موسيقى الفيلم ووزّعها وأنتجها.
يرافق هذا الفيلم الطّويل اكتشاف فريدٌ من نوعه لفيلم وثائقيّ حول الموسيقى في اليمن. بتكليف من المهرجان الموسيقيّ الهولّنديّ LeGuessWho وكجزء من برنامج 'تقارير من قارّات أخرى'، يأتي فيلم ثلاثة أوتار للمخرج اليمنيّ علي بن عامر. يروي الفيلم قصّة الحياة الواقعيّة للموسيقيّ اليمني سالم فدعق الذي يعزف على آلتي العود والغيتار. يتخطّى الفيلم الَمشَاهد الشّائعة للفقر والحرب في اليمن والتي تغرقنا فيها الشاشات ليلقي نظرة ثاقبة على المجتمع اليمنيّ. تحت طبقات الحرب والحزن، غليان من الموسيقى والحبّ والإبداع وهذا حقًّا ما يستحقّ الظّهور. يتأمّل الفيلم الذي صُوِّر في مدينتي صنعاء وعدن، صراعَ أجيال يدور بين أب وابنه. يعلّم الموسيقِيّ والمغنّي ناصر فدعق، ابنه سالم الموسيقى منذ صغره فيما يحاول في الآن عينه ثنيه عن سعيه إلى اتّخاذ الموسيقى مهنةً أساسيّة.
هل يمكن للموسيقيّين كسب عيشهم من الموسيقى وهل يحترم مجتمعنا النّاطق بالعربيّة اختيار الفرد لمهنة كهذه؟ بطريقة ما، قادنا التحوّل الصّناعي في مجتمعاتنا إلى نسيان الجوانب الاجتماعيّة والعلاجيّة التي لطالما امتلكتها الموسيقى. تمتلك الموسيقى القدرة على تنظيم الأحداث في المجتمع بشكل أسرع بأشواط من الثّقافة المادّيّة. للموسيقى، حرفيًّا، أن تجعل من العالم الجديد الذي يوشك على الولادة، عالمًا مسموعًا. هكذا رأت السلطة في موسيقيّين كالشّيخ إمام خطرًا داهمًا لها. إنّ الموسيقيّين/ات والمغنّين/ات أنبياء/نبيات بحدّ ذاتهم/ن.
يمكن حتمًا الاستماع إلى التغيّرات في عصرنا ومجتمعنا في برمجة الأسبوع التّجريبيّ الثاني (او الفصل الثاني)، الذي يضمّ أعمال المخرجة اللبنانيّة الفرنسيّة ميرا عضوميّة والمخرج اللبناني نديم تابت.مقالة ميرا السّمعيّة البصريّة غذاء مذهل للعين والأذن، يجب تذوقّها باستخدام سمّاعات رأس عالية الجودة. تأمّل في الذّاكرة والمساحة والانتماء، تأمّل شاعريّ في رحيل ' أصوات' لبنان. سمحت ميرا للمناظر الطّبيعيّة بالنّطق بحريّة من خلال تسجيلاتها الصّوتيّة الميدانيّة عالية الجودة، حيث يمكن الاستماع بوضوح للخطوات والبحر المتحرّك وزقزقة الطّيور. لا تحوّر ميرا الأصوات ولا تعدّل فيها بل تنقلها على حقيقتها وتسمح للمكان بالتّنفّس حتى يصل للمشاهد/ة والمستمع/ة البعيد/ة. يخاطب فيلمها الحواسّ بطريقة تختلف عمّا اعتدنا عليه في الأفلام التي ترصف العديد من الطبقات الموسيقيّة واحدة فوق الأخرى أو تتلاعب بالصّوت بدرجة كبيرة وتنظّفه حدّ التّعقيم.
يمكن سماع تراصف طبقات الموسيقى فوق المساحة والمجتمع بوضوح في الفيلمين القصيرين لنديم تابت، رسم في السّماء والليل، أخيرًا. صُوِّر الفيلم الأوّل قبل فترة قصيرة من وقوع انفجار بيروت الكارثيّ بينما تمّ تصوير الفيلم الثاني بعد ذلك. الفيلمان مطبوعان بالشّعر، يوازيان بطريقة تجريبيّة بين المساحات البصريّة وتلك الشّفهيّة وربّما يعرضان مباني بيروت وهندستها المعماريّة ممّا يخبر الكثير عن سكّان هذه المباني أو الأشخاص الذين سمحوا ببنائها.
في فيلم رسم في السّماء، في مقالة سمعيّة بصريّة تعرض الحداثة المنعكسة في البنيان الشّاهق، يختار المهندس المعماريّ برنارد خوري كلماته بعناية في أوزان شعريّة حرّة يتأمّل من خلالها أعماله الهندسيّة. غالبًا ما تتمّ الإشادة بهذا التّقّدم التّكنولوجي والصّناعيّ باعتباره ذروة الحضارة، فيما تختفي تحته مباني بيروت القديمة والمتجذّرة في تاريخها. نحن لا نرى النّاس في الشّوارع، لا نرى مشاكلهم وصراعاتهم، لكنّنا حتمًا نستطيع أن نرى بيوتهم وسيّاراتهم التي تنقلهم من مكان إلى آخر. 'هذا المكان ملعون، في الخلفيّة، هذا الجبل المعظّم، حطام... تلك القاعدة الرّائعة، الحال البالية، تُقَدَّم على أطباق برّاقة'، يقول برنارد خوري فيما يعزف الموسيقيّ والمؤلّف شربل هبر على قيثارته الكهربائيّة ليتردّد صداها فوق المباني والكلمات. على مدار الفيلم، لا نسمع في أيّ لحظة من اللحظات أصوات بيروت، بل نسمع صوت أحد مهندسيها وأحد موسيقييها.
تمّ توليف فيلم الليل أخيرًا بعد الانفجار، ليقدّم المزيد من الأصوات الموّلدة إلكترونيًّا والتي نسّقها ببراعة مطلقة شربل الهبر بالشراكة مع الموسيقيّ اللبنانيّ ومهندس الصّوت والمنتج فادي طبّال. يكرّم الفيلم الحياة الليليّة الصّاخبة في بيروت ويُرفقها بمشاهد لنادي AHM وبأخرى لأجساد راقصة ومبانٍ عدّة منها المهملة المهجورة ومنها السّليمة وفقًا لزمن التّصوير. تتمايل الأجساد بحرّيّة فوق حلبة الرّقص لتتقاطع صور الأضواء والجماهير والحركة مع صور الدّمار الشّامل. يحيل الفيلم المساحة والذاكرة إلى حركات كاميرا بطيئة حالمة، تغرق في ما تبقّى من ظلالٍ لأبنية أصبحت الآن مشرّعة على الشّمس. تضيف الموسيقى والأصوات طبقةً جديدة ًإلى القصّة وتغلّفها بطابعٍ يعيد ببراعة إحياء ذكرى لحظات النّشوة في الرّقص.
تُظهّر الدّورة الثالثة في الأسبوع الثالث من البرمجة (أي الفصل الخريفيّ)، نضج الأصوات السّياسيّ. في فيلم الأيادي الخفيّة يكشف كلّ من المخرجة اليونانيّة مارينا جيوتي والفنّان اللبناني اليوناني العامل في مختلف مجالات الفنّ البصريّ (lens-based artist) جورج سلامة، عن عمل عظيم متعدّد الطّبقات، من الموسيقى إلى السّياسة إلى الثورة والاضطرابات. عبر اختيار الموسيقيّ المتمرّد والخارج عن السّائد وعالم الموسيقى، الأميركي اللبناني جورج بيشوب كشخصيّة أساسيّة في الفيلم، تتكشّف ببطء قصّة مشهد الموسيقى التجريبيّة المصريّة بعلاقاتها المتشعّبة وتاريخها وصداقاتها. في تأمّله الأطراف الهامشيّة للفنّ يعكس فيلم الأيادي الخفيّة أصوات المعارضة عبر التّعبير البديل. ليس بالضّرورة أن تكون هذه المعارضة معارضةً سياسيّة، بل قد تكون اجتماعيّة أو فنّيّة لكنّها رغم ذلك تقدر أن تجعل من أصوات المعارضة أصواتًا مسموعة فيما تكشف عن الأحداث السّياسية لما يُعرف بالرّبيع العربيّ في مصر عبر استخدام 'كولّاج' collages من مختلف وسائل الإعلام. تمامًا كما الأحداث التي ترافقها، فإنّ موسيقى الفيلم تزعج البعض فيما يعتبرها البعض الآخر خارجة عن المألوف، كما يمكن أن نرى في وجوه المشاهدين/ات. لكن، أليس دور الفنّان/ة تحدّي المألوف؟ ألا تهدف الثّورات، فنّيّةً كانت أم سياسيّة، إلى خلق أنظمة جديدة في المجتمع والصّوت؟
فيلم أمبيانس لوسام الجعفري، يجمع هو الآخر بين الضّوضاء والصّوت والموسيقى، هذه المرّة داخل مخيّم الدّهيشة في بيت لحم أحد أكبر مخيّمات اللاجئين في فلسطين. استقبل المخيّم الذي أقيم عام 1949 فلسطينيّين من 45 قرية على مساحة 0.31 كيلومتر، لتصل مساحته اليوم إلى كيلومتر أو كيلومتر ونصف الكيلومتر. يحاول شابّان موسيقيّان تسجيل الموسيقى في هذه المساحة المكتظّة بالسّكّان. الكمّ الهائل من الأصوات الطّبيعيّة التي تحيط بهما، يمنعهما من تنظيم تسجيل موسيقيّ سليم. تعترض الضوضاء تنظيم الموسيقى وترتيبها. رغم ذلك، يحتضن الموسيقيّان الفوضى ويوظّفانها في الاستفادة إلى أقصى الحدود من الحالة الرّاهنة. لا يتعمّد الفيلم الإضاءة على الوضع السّياسيّ من خلال الصّورة أو الصّوت، لكنّه مع ذلك ومن خلال ما نشاهد ونسمع، يلمّح إليه تلميحًا كنتيجة تراكميّة للتّهجير والظلم والفوضى في ظلّ محاولات محكومة بالأمل لابتداع الجمال وسط كلّ الخراب.
أخيرًا وليس آخرًا نصل إلى الفصل الأخير، فصل الشّتاء أو الشّيخوخة، لندخل في الموسيقى والذاكرة مع اثنين من الموسيقيّين المخضرمين من الماضي: نورهان في حلم طفلة وصبري الشّريف في (صبري). ما الذي يحصل للموسيقيّين/ات والمغنّين/ات متى تقدّموا/ن في العمر، متى هجروا/ن المسارح والجماهير وانسحبوا/ن إلى حياة أكثر هدوءًا من حياتهم السّابقة؟
رأينا في الأفلام السّابقة موسيقيّين/ات يكافحون/ن ليشقّوا طريقهم نحو الاستقلال والشّهرة فجعلوا/ن من الموسيقى مهنتهم/ن الأساسيّة رغم الصّعاب التي فرضها عليهم/ن المجتمع. تتجلّى هذه الإيحاءات واضحة في فيلم نورهان، حلم طفلة. تخبر الفنّانة السّوريّة اللبنانيّة شركسيّة الأصل والتي اشتُهرت في خمسينيّات القرن الماضي مع بروز السينما، حفيدتها المخرجة مي قاسم، قصّة مسيرها نحو النّجوميّة. تنتقد نورهان بجرأة صناعتي السينما والموسيقى لدفعهما أجورًا زهيدة للموسيقيّين/اتوالمغنّين/ات والممثّلين/ات في ما تعتبره استغلالًا واضحًا للإبداع الإنسانيّ حيث يُتوقّع من الفنّانين/ات أن يقدّموا/ن أداءهم/ن مجّانًا خدمةً 'للقضيّة'. هكذا يُدفع الفنّانون والفنانات للبحث عن مهنة أخرى موازية أو أشكال أخرى من التّوظيف المهنيّ وما زال ذلك الوضع قائما حتى في يومنا هذا. لم يعترف مجتمعنا بعد اعترافًا كاملاً بدور الفنّ عمومًا والموسيقى خصوصًا كمهنة 'محترمة' قائمة بذاتها. هذا من جهة، من جهة أخرى فإنّنا لم نتمكّن بعد من تأسيس بنية تحتيّة صحيحة ترعى هذه الصّناعات في ظلّ مناخ غير مستقرّ على الإطلاق يعود أصله إلى مرحلة الاستعمار ويتردّد صداه في مرحلة ما بعد الاستعمار، مناخ ما فتئ يسود غرب آسيا وشمال أفريقيا.
ننهي برمجة الأفلام مع فيلم لمخرجة أخرى، فرح شيّا التي تذكّرنا بالتّأثير الكبير للملحّن والموسيقيّ والمدير الإذاعيّ صبري الشّريف الفلسطينيّ المولود في يافا، على موسيقى الرحابنة وفيروز. من خلال موادّ أرشيفيّة نادرة وعبر مقابلات ثاقبة الرّؤية، تروي شيّا قصّة صبري وعمله بالإضافة إلى روايتها لقصّة إذاعة الشّرق الأدنى وقصّة مهرجانات بعلبك. نقف مرّة أخرى لنتأمّل في المرآة التي تحملها الموسيقى أمام المجتمع، ذاك المجتمع الذي يتخلّى عمّن منحهم يومًا احترامه، لحظة خروجهم من دائرة الضّوء. هل يتخلّى المجتمع بالطريقة نفسها عن كبار السّن فيه؟ أم أنّنا ما زلنا نقدر أن نحافظ على سياسات التّعاطف والرّعاية في عصر السّرعة، في مجتمعاتنا النيوليبراليّة الجديدة التي علّمتنا أنّ لكلّ موجود تاريخ انتهاء صلاحيّة؟
تبقى أخيرًا ملاحظة يجب تسجيلها حول الأفلام التي لم تدخل ضمن البرمجة. لقد اخترت مجموعة واسعة من الأفلام من مناطق وحقبات مختلفة لتكون جزءًا من هذه البرمجة. لكن، ولأسباب متعدّدة، لم نتمكّن من تأمين نسخ من بعض هذه الأفلام. منها فيلم نوبة نساء جبل شنوة للرّوائيّة والمترجمة الجزائريّة الأمازيغيّة وأوّل مخرجة أفلام في الجزائر آسيا جبار المعروفة أيضًا باسمها في الولادة فاطمة الزّهراء إيمالاين. عملها الإبداعيّ الأصيل في توثيق أغاني النّساء الجزائريّات وخاصّة في المناطق الجبليّة، أصبح اليوم منسيًّا إلى حدّ كبير. الفيلم الذي يستمدّ اسمه من 'النوبه' وهي أغنية تراثيّة من خمس حركات، يخلط بين النّوعين الرّوائيّ والتّسجيليّ ليوثّق ابتداع النّساء لتاريخهنّ الشخصيّ والثّقافيّ. يستحقّ فيلم الزّردة وأغاني النّسيان الذي أعيد ترميمه حديثًا، يستحقّ هو الآخر المشاهدة حيث تجمع فيه المناضلة النّسويّة الرّائدةبين مقالتها السّينمائيّة وأرشيف إخباريّ أعيد تدويره لتقلب بذلك نظرة الاستعمار الفرنسيّ الدّونيّة لكلّ من هو 'آخر' غير فرنسيّ في الجزائر. تستحقّ أعمال المخرج السوريّ الكرديّ شيرو هندي هي أيضًا المشاهدة. أخرج السّينمائيّ المقيم في القامشلي العديد من الأفلام التي نحن في أمسّ الحاجة إليها، أفلام توثّق بالصّوت والصّورة أغاني الأيزيديّين الذين تعرّضوا للاضطهاد على مدى سنوات. إنّ الفظائع التي تعرضوا لها حديثًا ساهمت مساهمة كبيرة في تبعثر وتلاشي تراثهم الثّقافيّ. الثقافة كالإسفنج تمتصّ التّاريخ والأحداث اليوميّة. أولئك الذين يقدرون على الإبداع انطلاقًا من ثقافة ماديّة ملموسة (بصريّة) أو باطنة غير ملموسة (سمعيّة) ليوثّقوا الأحداث الأخيرة في بيئتهم، أولئك هم حقًا المحظوظون. أمّا أولئك الذين تعرّضت ثقافتهم للتّدمير مرّة بعد مرّة وسُرقت وأُتلفت، أولئك يلجأون إلى خيارات تحيا في العقل والرّوح كالموسيقى والأغاني، لينقلوا قصص ماضيهم ويكتبوا تاريخهم الحديث. هذه هي الحال في فيلم العشق في مواجهة الإبادة الجماعيّة لشيرو هندي حيث يوثّق الموسيقى والأغاني التي تروي تاريخ الأيزيديّين في شمال سوريا وجنوب العراق، عبر لقطات واسعة للمناظر الطّبيعيّة وعبر الظّهور المخطّط له للموسيقيّين/ات والمغنّين/ات أمام الجمهور.
عمومًا، فإنّ مشهدنا الموسيقيّ وأفلامنا الموسيقيّة يحتاجان للدّفع قدمًا ونحن ما زلنا نحتاج للمزيد من العمل الدّؤوب لدعم تلك الأرواح الشّابّة المبدعة التي تغذّي الأمل بمستقبل أفضل. نقلًا عن فيلم ميرا عضوميّة فإنّ ما يتكشّف لنا هنا لَبالغ الأهمّيّة والعمق وهو خيط يمتد على طول جميع أفلام البرمجة ويشي بما يحاول المجتمع فعله:
مع كلّ غروب، يغلب الشّمس الظّلام
على متن قارب صغير يبدأ إله الشّمس رع
رحلته الطّويلة في العالم السّفليّ.
على امتداد اللّيل،
يواجه قوى الفوضى
ليعلن انتصاره في كلّ صباح
مع كلّ شروق لكلّ شمس