روابط الوصول

لا شك في أنّ تجربتنا البشرية ترتبط بالزمان والمكان. فكلّ ما نعيشه أو نتخيّله أو نتذكره، يحدثُ في مكان معيّن وفي زمن معيّن. يُحدّد مفهوم الزمان والمكان إحداثيات حياتنا، الأمر الذي يوفّر لنا شبكات لفهم العالم وتاريخه سواء كان ذلك بواسطة الخرائط والتقويمات والجداول الزمنية والمناطق الزمنية، أو من خلال مَنْحنا سُبلًا لإنشاء الروابط مع جميع الأشياء الأخرى. ومع التقدّم التكنولوجي الذي حقّقناه وقدرتنا على قياس الوقت حتى جزء الثانية أو تحديد أي إحداثيّة على خريطة ما، نتوهّم أنّنا فهمنا الزمان والمكان. إنّما للزمان والمكان دائمًا قصصٌ مختلفة، فليس من مكانٍ يبقى على حاله مع مرور الزمن، إذ نحن بالكاد نلحق مواكبة التغيرات المستمرّة. يتخطى كل ذلك قدرتنا على الإدراك. في الواقع، الفضاء هو الذي يحتوينا. نحن نحدّد كياننا من خلال تأمّل 'اللا أنا' بالنسبة لـ'الأنا' ونسمّيه مساحة بتخطيط بشرتنا. تصوّرنا هذا يرسم حدود الفضاء، كما يُحدّد البروجكتور المساحة السينمائية، فهو لا يصنعها بل بالكاد يرسم إطارها. مهما حاولنا إيجاد المنافذ، تتلاشى جهودنا عبثًا، فقوانين الجاذبية تكبّلنا وتقيّدنا بمفهوم الفضاء، حتى في عقولنا. تأخذنا منافذنا إلى أماكن أخرى، وهمية كانت أم حقيقية، عبر الحواجز. تلك الحواجز والحدود التي نرسمها والتي تخولنا استيعاب ضخامته، وجعله أليفًا، وأنسنته، لعلّنا نمتلكه في نهاية المطاف.

يشكّل المكان نافذتنا المُطلّة على الوقت، فنحن نقيسه عمليًّا من خلال معاينة الطبقات الجيولوجية والتأريخ الكربوني للصخور. نفهم التاريخ من خلال دراسة الآثار التي خلّفتها الحضارات القديمة أو القطع الأثرية المخفيّة تحت الأرض. إنّ المكان يحفظ آثاره، يخبّئ القصص القديمة المنسيّة التي تنتظر من يحييها من جديد، والحياة التي حدثت والتي قد تعود لتظهر من جديد. بحسب القوانين الكونيّة، لا شيء يختفي بل كلّ شيء يتحوّل، وهذه التحوّلات والتقلبات هي بالضبط ما يحدّد مرور الزمن وترسم طبقاته. خلافًا للزمن، فإنّ الفضاء المادّي ملموس، إذ نراه أمامنا، ونلمسه مادّة، ونزرعه أرضًا نُدفن فيها؛ ولكن يبقى معناه وملكيّته عابرَيْن ومتغيّرَين باستمرار. فيمكن أن يحمل المكان نفسه معانٍ مختلفة لأشخاص مختلفين في الوقت نفسه، أو أن يكون له عدة مالكين وأسماء عبر الزمان.لكلّ مساحةٍ تاريخًا وقصةً ترويها، وغالبًا ما تعود السينما في الزمن من خلال مساحتها السينمائية الخاصة، إلى مكانٍ ما للكشف عن سيرته. وقد يتساءل المرء ما الذي يجعل المكان فريدًا ويستحقّ أن تُسرَد قصّته. نقتبس الإجابة من فيلم ديما الجندي 'بيني وبينك... بيروت'، ما يُميّز مكان عن آخر هو العلاقة التي تربطنا به.نظرتنا إلى المدينة تكونها الطريقة التي نسكنها بها. في بعض الأحيان يكون ذلك خيارًا: 'بيروت لك عندما تقرّر أنتَ ذلك، عندما تقرّر قبولها ببساطة، وأن تأتي وتعيش فيها وتتقبّلها كما هي.' ما الفرق الذي يُحدثه العيش في مدينة أو في أخرى؟ ففي النهاية كل المُدن متشابهة، كلّ المدن فيها منازل وأشخاص وتاريخ وأحياء وجوانب جيدة وأخرى مروّعة. لكن المدينة التي نحبها ونتملّكها هي التي نعرفها، فنحن نألف إيقاعاتها، والفوضى فيها، ومنطق شوارعها، وسكّانها. يمكننا حتى التماهي معها، تمامًا كما صوّرت ديما أختها ريم وهي تعيش في وئام مع بيروت، فيصبح تجسيدها للمدينة بارزًا، وكأنّ استقرار النفس هو نفسه الاستقرار في مكان واحد، حيث نندمج مع المدينة فنصبح كيانًا واحدًا. في الفيلم، بإمكان ريم أن 'ترسم مكانًا من خلال رسم ناسه'، لأنّ وجوههم وتعابيرهم وحركاتهم تشغل حيّزًا بداخلهم، فكل شخص يحمل مدينته في قلبه أينما ذهب.

يبدو وكأن الفضاء يكبر معنا، ويتقدّم في السّن، ويموت أحيانًا. أو هذا على الأقل ما نظنّه. ولكن عندما نشيح بنظرنا، يجدّد الفضاء نفسه ويروي قصصًا جديدة. المكان لا يرحل، بل يصبح ببساطة مكانًا لشيء آخر أو لشخص آخر. فنحن من نرحل، إمّا بمحض إرادتنا أو قسرًا. إذ يزخر تاريخ لبنان الحديث بقصص الرحيل والهجرة الجماعية والتهجير القسري والمجازر والانقسامات الديمغرافية. كمعظم الحروب، كانت حربًا على الفضاء. قاتَل الناس من أجل الأرض، واختبأوا فيها، وماتوا فيها، فأصبحوا هم الأرضَ في نهاية المطاف. لكن الأرض تبقى غافلة عن مناوشاتنا واشتباكاتنا وتُواصِل دوراتها المعتادة. تروي رين متري، في فيلمها 'لي قبور في هذه الأرض'، ذكريات وصدمات أولئك الذين خسروا أراضيهم وأُجبروا على الرحيل خلال الحرب الأهلية، وتُظهر لنا أنّ الحرب لم تنتهِ بعد، وأنّ التقسيم الإقليمي الطائفي ما زال مستمرًا من خلال معاملات مدنيّة جديدة مرتبطة بالأراضي وسياسات الملكية. ولكن هل يمكن حقًّا لأحد أن يمتلك مساحة لا تتغيّر ملكيتها بمرور الزمن؟ اذا كان الموقع مقبرة، فلربما كان ذلك ممكنًا.

لكن في زمن الحرب، ما الذي يتبقّى غير ذكرياتٍ من زمن آخر، زمن ما قبل الحرب؟ وكأنها الأحداث في حد ذاتها هي التي تخلق الزمان. لطالما تميّز مفهومنا عن انقضاء الوقت الطبيعي بتكرار المؤشرات الجماعيّة مثل التقويمات وأعياد الميلاد والاحتفالات الدّينية والسياسية ودورات المحاصيل وغيرها من أحداث. يُضاف إلى ذلك أنّ لكل منطقة فعاليّاتها الخاصة التي ميّزت تاريخها، وغيّرت مسارها الزمني وأعادت ضبط الدّوائر الزمنيّة. فلا عودة إلى ما كان عليه قبل ذلك اليوم بالذات، ما كان طبيعيًّا انتهى مع هذا الحدث، وأفسح المجال لواقعٍ جديد. في حالتنا، تُترجَم هذه الأحداث إلى تاريخ حديث من الحروب والصّدمات من حرب الاستقلال، إلى حرب الـ 58، وصولًا إلى الحرب الأهلية، والتّضخّم، وغزو بيروت، وتحرير الجنوب، وإعادة الإعمار، وحرب تمّوز في الـ 2006، وأزمة النّفايات، والثّورة، والانهيار الاقتصادي، والانفجار، وغيرها من أحداث مشابهة. بدت كل معركة وكأنّها الأخيرة، معركة حازمة، تفوق الخيال، لكنّنا غالبًا ما نجحنا في تصغيرها. عِلمًا أنّ ذاكرتنا الجماعيّة تحتوي على مجموعة من المؤشرات الزمنيّة حيث توقّف الزّمن بالنسبة لبعض الناس فقط، مثل مجزرة صبرا وشاتيلا أو مجزرة الدامور أو الإبادة الجماعية للأرمن أو النكبة أو جداول الاغتيالات والاخفاء القسري التي طالت كمال جنبلاط، وموسى الصدر، وبشير الجميل، ورفيق الحريري، وسمير قصير، وجورج حاوي وغيرهم.

ثم من حدثٍ إلى آخر، من صدمة إلى أخرى، تتلاشى بعض الذكريات ونعود إلى نقطة الصفر. بدأ البعض العدّ من الصفر لإعادة البناء، وآخرون بدأوا العدّ بعد اغتيال الحريري، وآخرون بعد هجرتهم القسرية، وما زال الكثيرون مستمرّون في العدّ. تكمن المشكلة في أنّ الأحداث أثّرت على الأفراد بشكل مختلف، وفقًا للمكان الذي كانوا فيه هم أو أحبّائهم جسديًا أو مجازيًا من حيث علاقتهم بالحدث أو بمسبّب الحدث. ولكن في جميع الحالات، كلما زاد عدد الأحداث في فترة زمنية قصيرة، شعرنا بمرور الوقت بشكل أسرع. ففي النهاية، نحن نشيخ بسرعة فائقة في لبنان. وننسى مجمل القصة بسرعة كبيرة وهي مسألة طبيعيّة. فتَسارع الأحداث يجعل من المستحيل أن نتذكرها كلها، وبالتالي نحن نتذكر بشكل انتقائي، فكل منّا يحمل جزءًا خاصًا به من الذكريات والصدمات. يصبح المشهد العام للذاكرة منقسمًا تمامًا مثل المشهد الإقليمي، ما لم يتم بذل جهود حقيقية بشكل جماعي لملء الصورة الكلية. وقد شكّلت السينما، الصورة المتحركة، وسيلة رائعة لمحاولة معالجة المواضيع المرتبطة بعلاقتنا بالذاكرة وبماضينا.

يصحبنا 'حنين' لمارون بغدادي على سبيل المثال، في جولة في بيروت في السنة الخامسة من الحرب الأهلية، حيث نتأمل كلمات ناديا تويني وأفكارها عن التغييرات التي تشهدها مدينتها، غير مدركة أنّ الحرب ستستمر لسنوات عديدة، وأنها ستصبح هي العنصر الثابت. 'كان لبنان صغيرًا جدًا، وكان بإمكاننا زيارة كلّ مناطقه في يوم وليلة، كان بيتنا.' تذكّرنا ناديا بهذه التفاصيل؛ حنين إلى لبنان الذي لم يعد موجودًا، أرض يتعذّر الوصول إليها بحدودٍ جديدة وتقسيمٍ جديد، خطاب فيه حنين اعتدنا عليه على مرّ السنين، للبنان قبل وبعد. إلّا أنّ الموضوع الذي يتمحور حوله القَبْل والبَعْد يتغيّر باستمرار. العيش بين مكانَين، هنا وهناك، فيتحوّل لبنان إلى مكان نقوم بزيارته، كمن يزور حياةً سابقة، أو يستعيد ذكرياته بعد انقطاع طويل، ليجد العزاء في الذكريات، والأماكن المألوفة المدمَّرة، وبعض الأغاني. كما لو أنّه من خلال العثور عليها نجد مجددًا قطعًا من أنفسنا، قصة المكان/الزمان العالقة تحت الأنقاض. الأنقاض التي سيتم إزالتها لاحقًا، والمباني التي سيتم ترميمها، لكن لا يمكن تجديد الوقت، فهو يضيع إلى الأبد... ما يؤدّي إلى شعورٍ بحنينٍ خانق. يصبح لبنان أيضًا الحبيب المهجور. 'لبنان مجنون. ربما دُمِّر بسبب جنونه، ولكنّ جنونه سوف ينقذه.'في فيلمه 'حروب صغيرة' الذي يُعرض كذلك ضمن هذا البرنامج، يصوّر مارون بغدادي لبنان خلال حقبة محدّدة، وهي حقبة الحرب الأهلية. على الرغم من أنّ 'حروب صغيرة' هو فيلم روائيّ أبطاله ممثلون، فقد أصبح توثيقًا حقيقيًا لوضع البلاد خلال تلك الفترة، بمشاهده المدمّرة والمنقسمة، والمنطق المشوّه، والوتيرة العالية، ومخاوف تلك الحقبة، وتلميح إلى تاريخ اغتيال كمال جنبلاط وبروز نجله وليد. المساحات هي بالطبع أساسيّة في حياتنا، لكن يمكننا التعوّد عليها إلى حد تجاهلها بشكل يومي. على سبيل المثال، نحن لا نتمتّع بوعي دائم في البيئة المحيطة بنا، ويمكننا التنزه بلا هدف باستخدام ذاكرة عضلاتنا في مدينة مألوفة. لكن في زمن الحرب، أو عندما يصبح المكان نفسه غير آمن، يلعب الفضاء دورًا حاسمًا في حياة سكّانه. فنسير ونركض ونختبئ بشكل مختلف، ومثل الحيوانات التي تتمّ مطاردتها و اصطيادها، نبقى متنبّهين دائمًا إلى كافة الأصوات والحركات من حولنا. تخلق ساحة الحرب ديكورًا مُرمّزًا بنقاط التفتيش والليالي المظلمة والتعرض بشكل عابر لخطر الموت. فجأة يصبح لحدود البلد معانٍ جديدة، داخل الحدود موت محتمل، وخارجها حياة جديدة، مع سؤال مُحيّر يتردّد في ذهن الجميع: هل أبقى أم أرحل؟ من جهة أخرى، فإنّ مساحة الفيلم نفسها مقسّمة أيضًا. إنه فيلم داخل فيلم، داخل فيلم. مساحة ثلاثيّة روائيّة خياليّة: يستعرض بغدادي تصوير فيلم الحرب بكلّ كليشيهاته، لكن الأبطال في فيلمه يصنعون أيضًا أدوارهم البطولية ومعتقداتهم مع تطوّر الأحداث. لا أحد يعلم حقًا كيف يجب أن تبدو الحرب، أو ما هو دورهم فيها، إذ تُعاد صياغة أدوارهم يوميًا، والحد الفاصل بين الخيال والواقع يصبح ضبابيًا، والخوف يصبح واقعًا، وتتجسّد مطاردة نبيل الخيالية المهدّدة للحياة. إنها حروب صغيرة، وأفلام صغيرة من نسج الخيال. مسرح حرب حقيقي حيث يتشابك إيمان الممثلين، فمن أراد يمكنه المغادرة، لكن لا أحد يمكنه الهروب.

لا يمكننا النظر إلى الوراء والتأمل إلا بعد المغادرة، وغالبًا ما ينتهي بنا المطاف بمحاولة مُحاكاة المكان نفسه حيث عشنا في يوم من الأيّام. يحتجز المكان الذي خسرناه الزمن فيه، فهناك جزء كبير من حياتنا تُعرّفه جملة 'تلك الفترة التي عشنا فيها هناك'، ليصبح كيانًا متجمدًا في الزمن يتّصف برحيلنا. مفهوم قبل وبعد الهجرة يولّد ذاكرة مشتركة لوقت أفضل. ونظرًا لحالات الهجرة العديدة، فكلّ واحدة تربط شعبها بخطّ زمني مشترك خاص بها، مختلف عن خطّ الشعوب المجاورة على سبيل المثال، لتصبح قصة أولئك الذين غادروا. في فيلمها 'زهر الليمون'، تصوّر باميلا غنيمة جهود والدها لإعادة خلق حارة حريك التي فقدها. فقدها أولا لأنه أُجبِر على الرحيل، لكنها فُقِدت أيضًا إثر وحشية التغيير الحضري وطفرة البناء الهائلة، ثمّ فُقِدت بسبب الصواريخ الإسرائيلية في العام 2006. فقدها ثلاث مرات، لكنها تحيا مجدّدًا في حديقته الجديدة، فالمكان ينتقل أيضًا مع أولئك الذين يحملونه في قلوبهم وفي ذكرياتهم. لقد أحضر والدها أعمدة خشبية من حارة حريك وتربة ليثبّتها في حديقته الجديدة ويعيد بناء منزله المفقود، كما لو أنه لم يرحل أبدًا. ولم يبقَ له في حارة حريك العزيزة على قلبه سوى المقبرة التي لم تتضرّر.

لكن في بعض الأحيان يمكن للأماكن أن تنطق بعد صمتها لسنوات. تخفي الأماكن ذكريات في حناياها، فالبيت يعرف تفاصيل أكثر من سكانه مجتمعين، البيت عبارة عن كبسولة زمنية تحتوي على قصص جميع سكانه، وفي فيلم 'في هذا البيت' للمخرج أكرم زعتري، أخفى المنزل كبسولة زمنية مدفونة في أرضه. خطّط المخرج لنبش الماضي واستعادته، بصورة حرفيّة، لأننا عندما نغادر مكانًا نحبه، نترك شيئًا وراءنا، كما فعل علي عندما دفن كبسولة زمنيّة تاركًا رسالة وتمنّي. أحَبّ علي المنزل؛ بيت أوى أشخاصًا لمدة 6 سنوات وهو لا يزال يسكن في ذاكرتهم. عرف علي كل التفاصيل المتعلّقة بالمنزل، والموقع المحدّد حيث دَفَن الرسالة، تحت شجرة الليمون، على عمق متر ونصف. إنّ معرفة المكان هو شكل من أشكال الملكية، ويُعتبر حبّ المكان والعناية به وردّه لأصحابه علاقة. لقد أوى المنزل المقاتلين، وهم بدورهم قاموا بحمايته. يعرف المنزل حكايات علي وأصحابه مجتمعين، وهو الحلقة المفقودة بين الروايتَين. قسّم المخرج الشاشة إلى غرف، كلّ منها مخصّص لبطل/فعل، على غرار غرف المنزل، ومعروضة في نفس مساحة الشاشة. شارك علي وأصحاب المنزل البيت لكنّهم لم يلتقوا أبدًا، شاركوا الشاشة من دون أيّ تداخل. وحدها الرسالة المكتوبة في الكبسولة الزمنيّة عُرضت على الشاشة بأكملها. فهو يعرف القصة الكاملة، فقد كان شاهدًا على الحقبتَين؛ حقبة الحرب وحقبة السلام.

بعد أن نرحل، نجد أماكن جديدة لاستبدال الأماكن القديمة، مطابخ جديدة وغرف معيشة جديدة ومنازل جديدة كي نجتمع فيها. إلّا أنّه في تنقّلاتنا المستمرة حول العالم وهجراتنا وحياتنا السريعة، بات المزيد والمزيد من هذه الأماكن الجديدة التي أعيد بناؤها يُجسّد لقاءات افتراضية. في فيلم 'بصحّة أمانينا' لربيع مروة، اعتادت عائلته الالتقاء في لحظات عابرة بين السّفرات والعطلات، في غرفة جلوس كانت تستضيف العائلة الموسّعة إنّما كانت تفتقد دائمًا لأحد الأشخاص، فكان الحاضرون يرفعون كؤوسهم ويشربون 'بصحّة الغائبين' الذين لم يتمكنوا من الحضور. لكن في هذه الأيّام الكلّ غائب، فتلتقي العائلة في مساحة افتراضية عبر تطبيق 'زوم' حيث يتناول كلّ شخص من المجموعة العشاء في مساحته المادية في الوقت نفسه، متأمّلًا الشاشة أمامه، في محاولة لمشاركة وجبة، وفعل، ووقت، ومساحة مشتركة. تتوحّد غرف المعيشة جميعها لتصبح غرفة واحدة، ضمن الشاشة، أثناء تبادل أطراف الحديث وتناول الطعام معًا، فيصبح المنزل المتنقّل شاشة محمولة مشتركة على جهازٍ محمول: بلد الرحّالة المتنقل. ولكن مع ولادة فرد جديد، لا تملك العائلة حتّى صورة لهم جميعًا معًا، ولا يمكن حتى لمساحة تصوير أن تجمع شتاتهم؛ فهم في النهاية لم يجتمعوا أبدًا معًا.

تشكّل أيضًا الصورة وفرد العائلة الغائب والفضاء الافتراضي مواضيع يتناولها فيلم 'أبي ما زال شيوعيًا' لأحمد غصين. في هذه اللفتة المؤثّرة لوالدَيه، يستخدم غصين تصميمًا لصور مجمّعة بشكل فنيّ كمكان خيالي لإعادة دمج والده ضمن الخطّ الزمني لقصّة عائلته وذلك في محاولة منه لمحو سنوات غيابه. تمّ التخفيف من حدّة غياب الأب/الزوج الفعليّ عن المكان والزمان حيث عاشت زوجته وأطفاله بفضل تبادل الأشرطة المسجلة. لقد كان دائمًا خارج الصورة المادية لسنوات عديدة، حتى ولو كان شريكًا في صنع الصورة العامة ومعيلًا للعائلة. بفضل الإبداع السينمائي منح غصين والده مساحة عائلية للانضمام أخيرًا إلى أسرته والتعويض عن الوقت الضائع، وأظهر لنا كيف يمكن للأفلام المساعدة في إعادة بناء المساحات وإصلاح الزمن وإعادة ربط الأسر وتغيير السرديّات. لدى عائلة غصين الآن صورة للعائلة بأكملها تجمع بين الماضي والحاضِر، الغائب والحاضِر. إنها في الواقع صورة/مجمّعة دقيقة للعديد من العائلات اللبنانية.

من ناحية أخرى، وبالعودة إلى الأماكن، تربطنا جميعًا علاقات خاصة بأماكن معيّنة، ويمكن لهذه الأماكن أن تُلهمنا، أو تسكننا، أو تجذبنا، أو تتحكم بنا، أو تروي قصصنا في غيابنا. يمكن أن تكون أماكن أخرى مؤثرة للغاية بحيث تصبح محطّ الأنظار في فيلم معيّن والاسم الذي نذكره ونردّده، بينما يصبح الممثلون مجرّد ديكور. يتم تخصيص وظيفة معيّنة للأماكن المبنية، وهذه الوظيفة تملي مجموعة معينة من السلوكيّات على مستخدمي تلك المساحة. بعض الوظائف شائعة، فالمطابخ على سبيل المثال، تحتوي جميعها على أدوات لإعداد الطعام، وغالبًا ما نقوم بالطهي وتناول الطعام في المطبخ. إنها مساحة مُخصّصة لما نتوقع أن نفعله ونراه. لكن في حالة 'تشويش' لفيروز سرحال، اختارت المخرجة بعبقريّة مساحة غير مُخصّصة لا تزال تتمتّع بمجموعة واسعة من الاستخدامات الممكنة في غابة بيروت الخرسانية: الأسطح. بإمكان الأسطح بفضل خصوصياتها، أن تملي تسلسل الأحداث، كما لو أنّها جزء من الإبداع، وتتيح استراحة من الحياة الطبيعية السائدة في الشوارع. كلنا نقوم بالأمور نفسها في المطابخ. لكن على الأسطح، نتمتّع بحريّة الارتجال. كما لو أنّ ارتقاءنا يسمح لنا بخرق قوانين المدينة في الأسفل، فنهرب. إنها مساحة مشتركة، مفتوحة للجميع لكنها منسيّة، مخفية إنّما مكشوفة إلى حدّ كبير، مكان نكون فيه مجهولي الهوية، مكان نلتجئ إليه لممارسة الحب من دون أن يتعرّف أحد إلينا. فهناك كلّ ما يمكن أن يحدث على السطح في المدينة العمودية.

لا تتساوى المدن عند إنشائها، تمامًا مثل الناس، فبعضها يتألق في وسط محيطه، والبعض الآخر يختبئ بخجل في البعيد، والبعض متنمّر جائر، والبعض الآخر يحمل جروحه المفتوحة، والبعض لم يحصل على التقدير الذي يستحقه خلال فترة نجاحه وقمّة تألّقه. يُظهر 'القطاع صفر' للمخرج نديم مشلاوي مثالاً آخر لمكان غريب يشكّل محور فيلمه، مكان أعطى اسمه للأشخاص الذين يعيشون بالقرب منه، فقد أعطى المسلخ اسمه لعرب المسلخ الذين سكنوا حوله. يُشار إلى المنطقة أيضًا باسم الكرنتينا بعد بناء مركز الحَجْر الصحي في ذلك الموقع قبل قرنين. من المألوف تسمية مكان ما باللهجة العامية تيمّنًا بمبنى كبير أو مصنع يقع بالقرب منه، مثل السوديكو أو الكولا أو البريستول، ولكن تسمية شعبٍ كاملٍ تيمّنًا بمبنى، فذلك أمر نادر. الاشخاص غير المرغوب فيهم فقط يصبحون مجهولين ويُمنَحون اسم مكان، مكان كان له العديد من الأدوار من مسلخ إلى مدبغة إلى سجن، فأصبح بطل الفيلم. يروي 'القطاع صفر' قصة هجرات ومجتمعات مهمّشة، هي منطقة لكل ما هو مهمّش في أطراف المدينة، على هوامش الذات، خلف جدار، منطقة غير معترف بها وغير مرئيّة. مركز حجر صحيّ، مسلخ، مستوطنات للوافدين الجدد، مكبّ نفايات، ومؤخرًا منطقة مدمّرة إثر الانفجار، تعرّضت مجدّدًا للتمييز وحصلت على نسبة أقل من الاهتمام أثناء جهود إعادة الإعمار، أو بعبارة أخرى، عمليّة محو الجرائم للأبد والمحاولات العبثية للعودة المتصوّرة إلى الحياة الطبيعيّة.

وفي حين يواصل البعض منّا حياتهم وقد باتوا يُتقنون النسيان، ما زال هناك أشخاص وأماكنَ أخرى عالقين في فصول لم تُكتب نهايتها بعد، عاجزين عن النسيان وعن المضي قدمًا. هناك العديد من الخطوط الزمنية، والتقويمات، والسجلات التاريخية، والأزمنة الماضية، ولكن متى يصبح شيء ما من الماضي؟ بعد يوم؟ بعد سنة. بعد أن نبدأ في الحديث عنه والتفكير فيه؟ بعد نسيانه ثمّ تذكّره؟ أو أنّ أولئك الذين لم يتأثروا بشكل مباشر به يمكن أن يعتبروه من الماضي، بينما الأشخاص الذين ما زالوا يعانون من تبعاتِه بشكل مباشر يعيشون في حاضره، أو تَتَتالى الأحداث، ونراهم في الماضي وهم يعيشون حاضرًا موازيًا آخر؟ فالحرب لم تنتهِ بعد بالنسبة لوالدة اختفى ابنها. وبعد الرابع من آب، توفي بعض الضحايا بعد أشهر من وقوع الانفجار متأثّرين بجروحهم. قُتلوا في الرابع من آب، لكنهم ماتوا في وقت لاحق. وبالنسبة لعائلاتهم وجميع أهالي الضحايا، ما زال الرابع من آب مستمرًا. الرابع من كلّ شهر هو الرابع من آب ونحن جميعًا ضحايا. فهو لم يصبح بعد ولا ينبغي أن يصبح ماضيًا.