روابط الوصول

لأنّنا في نهاية الأمر لا نملك إلّانا. عندما يفشل كلّ شيء، عندما تهاجمنا الحكومات وتنهار الأنظمة الماليّة، عندما يقف الوقت ويصعب تأمين المتطلّبات الأساسيّة للعيش، عندما نشعر وكأنّ العالم بأكمله قد أدار ظهره لنا، نفهم أخيرًا ما كنّا ندرك حقيقته دومًا، نحن لا نملك إلّا بعضنا البعض ولن نخوض هذا الغمار إلّا معًا.

لطالما شكّل التّضامن العامود الفقريّ للعلاقات بين البشر وحجر الأساس لبناء الحضارات ولطالما دعمنا بعضنا البعض، لكنّنا نميل غالبًا إلى النّسيان. نحن ننسى الجوهر متى كانت أمورنا على خير ما يرام ونظنّ واهمين أنّ نظامًا ما يحمينا. ننسى حاجتنا الأصيلة للتّواصل، للجماعة، للتّضامن.

تحلّ الأنظمة محلّ تضامننا فنروح نعتمد عليها خاصّة في التّجمّعات الحضريّة، لكنّنا كلّما ابتعدنا عن المراكز الاقتصاديّة والحضريّة، كما حال عكّار في شمال لبنان مثلًا، كلّما أدركنا أنّ هذا الدّعم مجرّد وهم وكلّما أبقينا على اتّصالنا بحدسنا الأصيل، بتلك الغريزة الإنسانيّة التي تنشد التكتّل والتّضامن في مواجهة الكوارث. إنّ اتّصال التّضامن العضويّ بحياتنا اليوميّة، يظهر في الأرياف وفي المناطق المهمّشة المحرومة والتي تعاني من نقص حادّ في الخدمات الأساسيّة. تحكم الدّورات الطّبيعيّة للمحاصيل طبيعة عمل النّاس وتذكّرنا أحوال الطّقس بهشاشتنا فيما تمتلك الأراضي المقفرة، كمكبّات القمامة والمدافن، إيقاعها ومنطقها الخاصّين الذين يحكمان حياة الجميع. إنّ عيشنا على أطراف المراكز الاقتصاديّة، منسيّين مهمّشين، إنّما يعيدنا إلى الطّبيعة ويدفعنا إلى التّضامن.

إنّ حياة الكائنات في الطّبيعة مبنيّة حول التّضامن والنّظم البيئيّة تعيش في تناغم وتعاون، تحتفل بتنوّعها وتعوّض بذلك عن أيّ نقص قد تعاني منه. كائن ينظّف ما لوّثه آخر وكائن يعطي فاكهة فيما آخر يلقّح الزّهور. هي منظومة بيئيّة معقّدة من العلاقات والتّعاون المتبادل وشبكات التّواصل، سواء على المستوى الحيوانيّ أو النباتيّ. نحن كبشر، اعتدنا أن نقلّد محيطنا وبنينا الحضارات والثقافات لتتشابك ككائن واحد ضخم ذي مجسّات تمتدّ في معظم الاتّجاهات، شبكة من المعرفة والعلاقات تحمل فيها جوهرنا الكلّيّ. هذا ما يجعل منّا كائنًا كاملًا متكاملًا.

لكنّنا نكرّر؛ يميل البعض منّا إلى النّسيان، بعضٌ يعتقد بقدرته على التّحكّم بالطّبيعة وعلى تجاوز الخلق، بعضٌ جشعٌ ينتهي به الأمر إلى تدمير النّظم البيئيّة التي أهدتنا الحياة. نقول البعض وليس الكلّ إذ لطالما تسامى العديد من المواطنين وقاموا بأفعال تنمّ عن التّعاطف والشّجاعة. تحوّل بعض هؤلاء ليصبحوا ناشطين سياسيّين ووقفوا متضامنين مع مجموعات أخرى في زمن الحرب والاضطراب السّياسيّ وقاتلوا في سبيل بناء عالم أكثر عدلًا، فيما ساعد آخرون غيرهم بطريقة حميميّة غير مرئيّة وقدّموا حينًا مبادرات صغيرة وأحيانًا ابتسامات منيرة ولم يطلبوا في المقابل شيئًا ولم يتلقّوا إلا بركة مساعدة شخص غريب عنهم. رغم كلّ شيء فإنّ وجه الله يظهر في التّفاصيل الصّغيرة ومازال الكوكب مكانًا جميلًا قابلًا للحياة. لسنا وحدنا في هذه الرّحلة. نحن كثر وما زلنا نقيم علاقات جديدة تجعل منّا أكثر قوّة في كلّ لحظة.

في السّنوات القليلة الماضية فقد الكثير منّا أحبّاء له سواء في انفجار بيروت أو في خضمّ الأزمتين الاقتصاديّة والصّحيّة، ممّا جعل العديد منّا يعيد التّأمّل في الأولويّات. ذكّرنا كلّ ذلك بأنّ من نحبّ والعلاقات التي نقيم مع غيرنا واللحظات القليلة التي تشاركنا فيها الفرح وتعاونّا خلالها على تخطّي الصّعاب، كلّ هذا يحمل المعاني الأسمى والأهمّ متى اقتربنا من الموت. كيف نحيا الآن إذًا حاملين كلّ ما يذكّرنا بالالتصاق بالقلب، بكلّ أولئك الذين نحبّهم حقًا؟ ألّا نتوه في سراب العمل والنّجاح والصّعاب والاضطرابات الاقتصاديّة، بل نبقي على فعلنا قويًّا وأحبّاءنا قريبين منّا ومجتمعاتنا حيّة، لنعبر الغمار معًا؟ ”في اتّحادنا قوّة” شعار قد يبدو للوهلة الأولى مبتذلًا ولكنّ السّنوات القليلة الماضية التي مرّت في تاريخ لبنان تُظهر بوضوح صحّة هذا الشّعار. في لحظات كهذه، وحده التّضامن يجمعنا لنتمكّن من مواجهة ما سيأتينا في المستقبل. في نسخته الرّابعة يقدّم مهرجان ”ريف” (لقاءات بيئيّة وسينمائيّة) مجموعة جميلة من الأفلام التي تعرض أمامنا قصصًا مختلفة حول التّضامن والأمل في أجزاء مختلفة من العالم العربيّ.

إن كنّا ننتظر أحدًا ما فإنّنا إنّما ننتظر أنفسنا والأمل يكمن حقًا فينا، الآن وبالأمس وفي الغد.

في يوم الدّين مثلًا نرى علاقة رجل مصاب بالجذام وطفل يتيم ونلمس تضامنهما في رحلتهما عبر مصر، حيث يبحث كلّ منهما عن عائلته ليجد كلّ واحد منهما نفسه وشريك رحلته. فيلم طريق كلاسيكيّ بكلّ ما تحمله الحياة من مخاطر وأفراح، يرينا أنّ الخاضع والمنبوذ دائمًا ما يترابطان وأنّ الفئتين غالبًا ما تتضامنان. يحدّد المجتمع مفهومه لما هو بنظره طبيعيّ ومقبول فيما يدفع إلى الهامش ما يعتبره خارجًا عن الطّبيعة. في هذا الهامش تحديدًا، تحت الجسور وفوق مكبّات القمامة وبعيدًا عن نظرة التّهميش التي تحملها المعايير الاجتماعيّة، يجد النّاس الحرّيّة التي يحملها الاعتراف بشخصهم، كبشر يستحقّون الحبّ بغضّ النّظر عن كلّ المعايير الاجتماعية المغلقة.

يجتمع المنبوذون ليساعدوا بعضهم البعض. جسد واحد يتكامل. أحدهم يملك قدمًا والآخر علاقات عمل، واحد يتمتّع بمظهر حسن وآخر بالإرادة. ينبع تضامنهم من انعكاس لأعماق الذات، كلّ واحد منهم يرى نفسه في قصص الآخرين وكأنّه ينظر في مرآة. هم يشكّلون معًا شخصيّات قصص متشابهة: أحد ما في مكان ما أحبّهم إلى أن طُردوا من الجماعة بسبب فعل لم يرتكبوه، تُركوا ليواجهوا الحياة وحيدين إلى أن التقوا واجتمعوا في قصّة واحدة. يوضح المخرج كيف للأشخاص الذين يعيشون أقصى الظروف أن يكونوا من أسعد البشر وأكثرهم كرمًا، كيف لهم أن يكونوا من القلّة المتبقّية التي تمتلك هدفًا وأخلاقًا. وكأنّ عدم امتلاكهم لما يخسرونه قد حرّرهم من الخوف. أحيانًا، كلّما قلّ ما نملك كلّما عظُم ما نعطي وكلّما تعاطفنا مع الآخرين كلّما وقفنا معهم متضامنين. إنّ للضّوء أن يشعّ عظيمًا في أحلك الأماكن والظروف.

من ناحيته يُؤكّد فيلم الجمعيّة أنّ للضّوء أن ينبعث من أقسى الظروف الاقتصاديّة. يقدّم الفيلم لنا عرضًا مؤثّرًا ومضحكًا وحيويًّا لتكافل النّاس ووقوفهم سندًا لبعضهم البعض. تمامًا كما يقول ملخّص الفيلم بشكل لافت، فإنّ الأمل في أحد أكثر أحياء القاهرة فقرًا، إنّما ينبع من الجماعة، ممّا يعطي لعبارة ”في الاتّحاد قوّة” معنًى جوهريًّا. تقوم الجماعة التي يصوّرها الفيلم بتشكيل اتّحاد ماليّ، حيث يدفع كلّ عضو فيه مبلغًا يوميًّا معيّنًا لتقرّر الجماعة بعدها كيفيّة التّصرّف بالمال المجموع وتقدّمه لأحد أعضائها دوريًّا. إنّها الأفكار الأصيلة للمصارف الجمعيّة قبل سيطرة النّظام الرّأسماليّ. إنّ مساعدة الغير على التّطوّر إنّما تساعدنا على تطوير أنفسنا. بفضل مال هذا الاتّحاد يمكن للنّاس أن يعيشوا حياة مثمرة سواء في استثمارها في العمل أو الزّواج أو الطّلاق أو الحلم.

يعيش أعضاء الجمعيّة كعائلة كبيرة واسعة أعيد تجميعها وانعقادها. لا يُترك أحد وحده، يرتبط كلّ فرد منهم بشبكة مكثّفة من علاقات الجوار، علاقات ليست غالبًا بالواضحة، نضيع في تشعّباتها فلا نفهم من تزوّج ممّن ولمن ينتمي هؤلاء الأطفال وكأنّهم ذابوا في انتماء أوسع إلى المجموعة ككلّ. يتشارك الجميع في تربية الأطفال وعندما يحضر ”المسحّراتي” إلى هذه القرية الحضريّة الصّغيرة خلال شهر رمضان، يروح ينادي كلّ شخص باسمه ليوقظه عند موعد تناول وجبة السّحور. هكذا يصبح التّضامن والتّكاتف شعارين للحياة اليوميّة، ”خيري من خير الجماعة” تقول إحدى شخصيّات الفيلم. في النّهاية وحتّى مع الموت، تمتدّ شبكة العلاقات إلى القبور وغالبًا ما نرى شخصيّات الفيلم تزور قبور أحبّائها وتعمل بجدّ للحفاظ على مساحة جماعيّة مشتركة داخل المدافن، تتّسع للجميع، يزورون قبورها ويتجمّعون فيها. من ناحية أخرى فإنّنا نرى نواقص في التّضامن وفشلًا في الجمعيّات؛ قد يتعرّض أعضاء في الاتّحاد للخذلان من قبل أشخاص سبق لهم أن ساعدوهم، ليجدوا أنفسهم مرّة أخرى وحيدين. لا وجود حقًا لنظام مثاليّ ولكنّ بعض الأنظمة تبدو أكثر فرحًا وإنسانيّة من غيرها، هكذا فإنّ التّضامن بين أعضاء هذه الجماعة قد أمّن لهم حماية نسبيّة وسط قساوة ظروفهم الاقتصاديّة البائسة.

يقدّم الفيلم المميّز المطلوبون ال 18 مثالًا جيّدًا عن جمعيّات واتّحادات ونشاطات نضاليّة أكثر تنظيمًا من غيرها، إذ يعيد المخرجون خلق قصّة واقعيّة مدهشة مستقاة من الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى. يطارِد الجيش الإسرائيليّ 18 بقرة في بلدة بيت ساحور، إذ اعَتبرت إسرائيل الإنتاج المستقلّ للحليب من البقرات على أراضي مزرعة تعاونيّة فلسطينيّة تهديدًا لأمنها القوميّ. انخرطت البلدة بأكملها في تكتيكات منظّمة من المقاومة المدنيّة والعصيان ممّا أدّى إلى تشكيل تجمّعات مختلفة كاللجان الزّراعيّة ولجان الأحياء بالإضافة إلى مجلس يُعنى بالتّواصل بين هذه اللجان. كان ذلك جهدًا مشتركًا بين الأهالي لخلق وسائل إنتاج يقاومون من خلالها الاحتلال وقد نجحوا في مهمّتهم. ”تفوّقنا عليهم من النّاحية العقليّة، لم يتمكّنوا من إخافتنا وحتّى في السّجن، حوّلنا الاعتقال إلى نزهة”. في منع تجوّل فرضه جيش الاحتلال على البلدة مثلًا، استخدم الأهالي موسيقى موحّدة في كلّ الأماكن واحتفلوا على الشّرفات وشربوا العرق ولعبوا بورق الشّدّة.

أرادت الحكومة الإسرائيليّة أن تسيطر على حياة الفلسطينيّين فليس للاحتلال أن ينجح إلّا عبر التّحكّم بحياة الناس، بينما هدّدت لجان الأحياء من خلال حكمها الذّاتيّ فائق الفعاليّة - من إنتاج الحليب إلى أعمال البستنة وصولًا إلى جمع النّفايات - هدّدت الحكم الإسرائيليّ للبلدة. هكذا عندما خاف المحتلّ الشّعب، تحوّل قمعه إلى سخافة فراح جنود الاحتلال يبحثون عن البقر وكأنّهم يبحثون عن إرهابيّين وفقد النّظام بأكمله صوابه. المطلوبون ال 18 توثيق واقعيّ لفترة الانتفاضة الأولى حيث ابتكر النّاس وقتها سبل تعاون عبقريّة، أداروا من خلالها حياتهم وأسّسوا نُظمًا محلّيّة للحكم والإدارة. شكّلت هذه النُظم والتّعاونيّات الأعمدة الأساسيّة للانتفاضة إلى أن خذل الحكّام ناسهم من جديد ووقّع عرفات اتّفاق أوسلو.

يسلّط فيلم بمشي وبْعِدّ الضّوء على نوع آخر من أنواع التّضامن. هو تضامن إنسانيّ سياسيّ يمارسه أناس يرفضون فكرة الحدود، تضامن نضاليّ عابر للأوطان يرفض تقسيم الدّول وطريقة توزيع الثّروة بين بلدان تملك كلّ شيء وأخرى لا تملك شيئًا (نتكلّم في هذه الحالة عن ”مهرّجون بلا حدود”). هو أيضًا تضامن يمارسه أناس يدركون امتيازاتهم ويسعون لتسخيرها في خدمة الآخرين في أوقات الشّدّة. هنا تسافر مجموعة من المهرّجين إلى جزيرة ليسفوس اليونانيّة في سعي منها إلى إضفاء الضّحكة على موجات من اللّاجئين الهاربين من جحيم الحرب إلى أوروبا. من حركات التّضامن العابرة للأوطان في منطقتنا مثلًا، نذكر حركة التّضامن العالميّة في فلسطين حيث فقدت النّاشطة رايتشل كوري حياتها أو حركة التّضامن لوقف الحرب على العراق. دائمًا ما ينبع هذا النّوع من التّضامن الذي يضحّي في سبيل الآخر من إيمان سياسيّ عميق بالمساواة ومن النّضال في سبيل عالم أفضل، عالم يشبهنا ويجمعنا ويعطي لكلّ مواطن فيه فرصةً لتغيير حياته. غالبًا ما لا تؤثّر الكارثة مباشرة بحياة الشّخص المنخرط في أعمال نضاليّة كهذه - أقلّه ليس في الحاضر- وغالبًا ما لا يلتقي هذا الشّخص وجهًا لوجه بأولئك الذين يتلقّون فعله التّضامنيّ. هو فعل تضامن مع الذّات السّياسيّة الكبرى. إذا ما دقّقنا أكثر نجد، كما تكشف المخرجة في نهاية الفيلم، أنّ المهرّجة وأختها المخرجة كانتا قد لجأتا كطفلتين إلى اليونان نفسها. سيأتي وقت تضربنا فيه الكارثة جميعًا. إنّ بلاء البعض في الحاضر لهو حتمًا بلاء للآخرين في المستقبل، لذلك لا بدّ لنا أن نقف متّحدين لنحمي بعضنا البعض.

من ناحية أخرى فإنّنا نرى كيف أنّ الحكومات تقاتل بشراسة فعل التّضامن السّياسيّ. من غير القانونيّ تقديم يد المساعدة لأحد خارج إطار عمل الجمعيّات غير الحكوميّة المرخّصة. هنالك ”سوق للمساعدة” جرى تنسيقه بعناية، سوق أعمال تجاريّة مرخّصة يُسمح لها وحدها بالاستجابة للأزمة بعيدًا عن أهل الجزيرة. من غير القانونيّ تقديم يد العون للّاجئين، من غير القانونيّ فتح المنازل لهم، أو التحدّث إليهم، فقد زجّ بعض النّاس في السّجن لمجرّد تقديمهم يد العون مباشرةً للّاجئين ومن خارج إطار أوامر الحكومة. تذكّرنا هذه الجهود الرّامية إلى قتل غريزة التّضامن الإنسانيّة وخنق قدرة النّاس على الوقوف إلى جانب بعضهم البعض بألمانيا النّازيّة مثلًا، حيث كان إيواء اليهوديّ يُعتبر خروجًا عن القانون.

إنّ الأنظمة القمعيّة تخشى التّضامن بين النّاس، كما تخشى اليدَ التي تمتدّ لتقديم المساعدة، خاصّة إذا ما لم تبتغِ هذه اليد أيّ مصلحة رأسماليّة مباشرة. إنّ لأفعال التّضامن بين النّاس أن تجعل الحكومات تركع أمامها.

في ملاحظة مأساويّة أخرى حول التّضامن العالميّ، يُظهر لنا فيلم تأتون من بعيد، التّاريخ المنسيّ للعرب الذين استجابوا للنّداء العالميّ لمناهضة الفاشيّة خلال حروب فرانكو في إسبانيا، عرب ذهبوا ليقاتلوا جنبًا إلى جنب مع ثوّار ورفقاء آخرين لينساهم الجميع في نهاية الأمر بين أشجار بساتين الزّيتون. الفيلم تذكير لطيف ومؤثّر بعالم مثاليّ عاش بعض النّاس فيه. عالم متين التّرابط، بلا أيّ حدود بين الدّول، يحمل فيه النّاس أسماء وهويّات مزيّفة، في حقبةٍ عاش فيها الأب والأمّ كرفيقين شيوعيّين، التقيا في فلسطين وسافرا حول العالم لتنفيذ مهمّات سرّيّة وهربًا من الاضطرابات السّياسيّة.

يضيع هنا الحدّ بين الواقعيّ والمتخيَّل، بين السّياسيّ والشّخصيّ. بلادهما واسعة ممتدّة من روسيا إلى فلسطين إلى لبنان إلى إسبانيا واليونان، فيها الكثير من الاضطرابات السّياسيّة والتّاريخيّة. أحلامهما هي الأخرى واسعة ولكنّها تفتّتت إلى مليون حلم، ثلاثة منها تجسّدت أطفالًا ثلاثة، كلّ واحد منهم في بلد، يتقدّمون في السّنّ منفصلين في قارّات ثلاث، بألسنة مختلفة ولغات جسد مختلفة، ثلاثة أشقّاء يجسّدون حلم أهلهم الأمميّ في زمن كان من الممكن للعالم فيه أن يصبح بلدًا واحدًا. على النّقيض من ذلك تحوّل العالم إلى جزر وحيدة معزولة ولكن متشابهة، تجمعها صورة. عرضٌ شديد الشّاعريّة لتاريخ مطبوع في تفاصيل حياة عائلة، خاصّة حياة الأخت الأكبرعمرًا ”دولت” التي علقت كطفلة في ميتم في روسيا فيما كان أهلها يعيشون النّكبة في فلسطين. تاريخ لتضامنٍ فشل في تحقيق أهدافه، تاريخ يرسم سنوات عمرٍ امتدّ طويلًا عبر الزّمن. كما في فيلم تأتون من بعيد، فإنّ التّجمّعات التّعاونيّة التي تعتنق المثاليّة غالبًا ما تترك خلفها أفرادًا وحيدين وغالبًا ما يشبه السّقوط من فكرٍ مثاليّ كهذا السّقوط من الجنّة إلى الجحيم. لكن أقلّه، يكون المرء قد سعى سعيه وآمن به وتذّوق طعم جنّة كهذه.

في الختام وكما ظهر في الأفلام المذكورة أعلاه، فإنّ التّضامن بين النّاس لم يقدّم يومًا حلًّا كاملًا لأيّ من أزمات عالمنا، اقتصاديّة كانت أم اجتماعيّة أم دينيّة. نحن اليوم فشلنا في ابتكار نظام تضامن جمعيّ صلب يقدر أن يساوي بيننا مترابطين موحّدين. على العكس من سعينا فإن ”الحالة البشريّة” بالإضافة إلى القَطْع في انسياب الحياة غالبًا ما انتصرا على كلّ شيء آخر مرّة تلو الأخرى. لكنّ الأمر غير ذي قيمة حقًا، فالحياة رحلة وليست مجرّد وجهة أو هدف. نأتي إلى هذا العالم وحيدين ونرحل وحيدين وندرك وجهتنا النّهائيّة ولكن خلال المسير وعلى امتداد الطّريق، على دروب الفرح والتّجربة الإنسانيّة، فإنّ التّضامن والإنسانيّة يجمعانا ويجعلان من الرّحلة رحلةً تستحقّ خوضها.

متى عاش الإنسان حياةً يغمرها حبّ الجماعة له، فإنّ ذكراه تبقى حيّة، في أفعاله الطيّبة، في ضحكته التي يعبر صداها المدى بعد غيابه وفي ضميره الحيّ الصّافي. التّضامن حياة حقّقت ذاتها وتكثّفت فيها القيم العليا وصانها الأمان الاجتماعيّ والتّواصل.