روابط الوصول

لطالما اهتمّت السينما بموضوع العائلة واستوحت في رواياتها من العديد من المواقف العائليّة المتنوّعة، فالعلاقات العائليّة شائكة وهي ربّما من أكثر العلاقات تعقيدًا التي قد يواجهها المرء في حياته.

منذ بداياتها والسّينما الوثائقيّة تقدّم مشاهد عائليّة، فالعائلة بالنّسبة للسّينمائيّ تشكّل مادّة أوّليّة خصبة من الحبكات والاكتشافات التي ترفد عمله الإبداعي الإخراجيّ.

تزخر السّينما الوثائقيّة بالمواضيع العائليّة الحميمة، نجد ذلك خاصّة في المشهد الوثائقيّ اللبنانيّ المعاصر. يصنع بعض المخرجين أفلامًا حميمة تخصّهم هم قبل غيرهم، يقدّمونها لجمهور قادر على التّفاعل معها والتّأثّر بقصص صنّاعها الشّخصيّة.

منذ عدّة سنوات والفيلم العربيّ يفتح مساحة أكثر رحابة من ذي قبل أمام المواضيع الحميميّة الخاصّة وغالبًا ما نلمس تآلفًا لدى الجمهور مع ذلك. يوجّه المخرجون الذين يختارون مقاربة مواضيع كهذه، نظرهم نحو أعماقهم ويتناولون مواضيع شخصيّة حساسّة وفي بعض الأحيان معقّدة.

ندعوكم في برمجة هذا الشّهر على أفلامنا إلى اكتشاف مجموعة من الأفلام الوثائقيّة اللبنانيّة المختارة، تغوصون من خلالها في حميميّة الصّور العائليّة.

في فيلمه الوثائقي ”يا عمري”، يرسم المخرج هادي زكّاك صورةً مؤثّرة لجدّته هنرييت التي توفيت عن عمر يناهز 104 أعوام.

على امتداد سنوات طويلة يتابع المخرج حياة جدّته ليشهد على تحوّل ذاكرتها وعلى هجرة لبنان إلى البرازيل وعلى قصص الحبّ والطّفولة والوقت المفقود. من خلال صورة الجدّة هذه ومن خلال رسم مسيرتها وعبر اللجوء إلى الأرشيف الخاصّ، يعيد الفيلم تشكيل السّجلّ العائليّ ويتناول موضوع التّاريخ الثّقافيّ الاجتماعيّ في لبنان.

لا يكرّم فيلم يا عمري الجدّة فحسب، بل يقدّم أنشودة عن الحياة. هو فيلم يرفض النّسيان، ويتأمّل في الحياة والموت والحبّ والوقت الذي مضى. يناقش الفيلم من ناحية العلاقة بين الشّيخوخة والذاكرة وهو موضوع غالبًا ما يتكرّر في أفلام زكّاك، ويؤكّد من ناحية أخرى على اهتمام المخرج الشّديد بالتّاريخ والأرشيف.

إلى جانب زكّاك، تخوض مخرجتان أخريان تجربة تصوير الآباء.

في فيلمها الوثائقيّ ”بيروت عالموس” ، تكرّم زينة صفير والدها الذي أدار طوال عمره صالونًا فاخرًا للحلاقة استقبل فيه سياسيّين وأمراء وغيرهم من الشّخصيّات.

إيلي صفير شخصيّة مميّزة بحدّ ذاتها. هو الرّاوي الذي عايش على امتداد حياته المهنيّة كلّ الشّخصيّات السّياسيّة اللبنانيّة والعربيّة. من خلال تجربته وعبر رواياته يتجسّد تاريخ بيروت ما قبل الحرب وخلالها.

كبرت زينة صفير وهي تستمع للقصص التي كان يرويها والدها. أمام كاميرا ابنته وانطلاقًا من تجربة شخصيّة للغاية يروي الوالد تاريخًا للبنان مفعمًا بالحكايات المرحة. تأتي روايات الوالد في الفيلم ممتعة بقدر ما هي مبتكرة وتكاد تقدّم نفسها كأرشيف تاريخيّ.

تظهر علاقة الوالد والابنة مرّة أخرى في الفيلم القصير ”أبي يشبه عبد النّاصر” لفرح قاسم وهو فيلم يصوّر مواقف تجمَعُ بين الفرح والحزن والحنين إلى الذكريات.

يعاني مصطفى من إضطرابات في النّوم. هو شاعر ينتمي لجيل مضى. تصّور ابنته، المخرجة فرح قاسم التي تزوره بانتظام، حياته وشعره والذكريّات التي تلفّه من كلّ صوب منذ وفاة زوجته. في حميميّة القصص التي يهمس بها مصطفى، تبحث المخرجة عن أجوبة لأسئلة لم تتجرّأ يومًا على طرحها عليه.

ها هي تلمس جوانب جديدة من شخصيّة والدها. نتعرّف عليه في جدران منزله الطّرابلسيّ العابق بالذكريات. بجرأةِ مستكشفةٍ، تنقل فرح إلينا تلك المشاعر العميقة التي أحاطت بها وبوالدها بعد وفاة الأمّ.

تبدو فرح وكأنّها تتسلّل إلى الفيلم تدريجيًّا من خلف كاميرتها، فتترك رويدًا دور المخرجة لتتحوّل إلى شخصيّة رئيسيّة تلعب دور الوسيط بين شخصيّتي الأب والأم، تلك الأمّ التي احتلّ غيابها مكانة مهمّة.

يستوحي غسّان سلهب فيلمه الوثائقيّ ”1958” والذي يمكن وصفه بالفيلم التّجريبي الشّاعريّ، من حدثين أساسيّين طَبَعَا حياته: ولادته في السنيغال البلد الذي استضاف والديه، والتّوتّر الدّاخلي في لبنان مسقط رأس الوالدين، وهو توتّر يبدو وكأنّه يحضّر للحرب الأهليّة القادمة.

يتقاطع التّاريخ الشّخصيّ للمخرج مع التّاريخ الوطنيّ العامّ في لبنان ليختلطا بمواضيع المنفى والاستعمار والسّياسة اللبنانيّة والتّنوّع اللّغويّ.

فيلم سلهب، هو الآخر، عبارة عن أنشودة للأمّ. أمّه التي تُنسَج من حولها وفي وجهها وفي قصصها واستدعاءاتها، صور أحداث الماضي في لبنان والسنغال. استعارة ترمز للبلد الأمّ وللّغة الأمّ.

في فيلم ”يوميّات كلب طائر” لباسم فيّاض، يجمع بين المخرج وكلبه وسواس القلق القهريّ. يكتشف المشاهد في الفيلم الوجوه المختلفة لهذا القلق الغامر. تدور الأحداث في بيت العائلة حيث نكتشف شخصيّات عديدة: والد المخرج وأمّه وأختاه وأولادهما.

في سعيه إلى الشّفاء يشرّح المخرج بيئته باحثًا عن جذور الألم في الطّفولة، كما في الخوف وفي الصّراعات الكامنة في كلّ تفصيل.

يظهر فيلم باسم كعلاج نفسيّ. في سعيه لفهم قلقه وبعد تجربته لمختلف أنواع العلاج، يكتشف المخرج جذورًا مختلفة لآلامه. نجد أوّلًا العنصر الوراثيّ، فالأمّ هي الأخرى تعاني من القلق، كما تعاني منه الأختان. لكنّنا نجد أيضًا الجانب المتعلّق بالحرب، تلك الحرب التي قضّت مضاجع طفولة المخرج وغذّت أحداثها الصّادمة قلقه.

بين الذاكرة والحميميّة تقدّم أفلام الصّور العائليّة شحنة عاطفيّة قويّة فيكاد لا ينجو أحد من لغتها الجماليّة غير المتقنة أحيانًا. في نهاية المطاف، هي تلك الصّورة ”العاطفيّة” التي يحاول المخرجون خلقها واستدعاءها.

إنّ السّعي لتكوين فهم أوضح لتلك ”الأنا”، تلك ”النحن”، يقدّم نفسه كخطوة ضروريّة نحو إعادة التّموضع في المكان (لتحقيق الذات في هذا المكان) في هذا البلد الذي يعيش صراعًا يكاد لا ينتهي. هي هذه ”الأنا” أو هذه ”النحن” التي يحاول صنّاع الأفلام العثور عليها أو استرجاعها داخل هذا المكان الحميميّ الذي يمكن أن نسمّيه ”المنزل” (Home).