روابط الوصول

كلّ صورة لإنسان يعمل، ومن ثمّ فربّما كلّ صورة (يلتقطها بداهةً إنسان)، يمكن أن تستدعي، وإنْ بدرجات، ’الجريمة الأصليّة‘، التي عوقب عليها بالكَبَد، بالتّعب والعرق يأكل. ولكن في ظلّ هذا الانطباق الكامل واللا-تاريخي بين الدّالّ والمدلول لا يتحدّد المعنى ولا التّاريخ ويتلاشى أصل الجريمة والحضور الدّائم للعمل. في المقابل، فإنّ لحظة الالتقاء المادّيّ القصوى، تاريخيًّا، بين العمل (الحديث) والجريمة هي معسكرات التّجميع النازيّة: “المجزرة الصّناعيّة“. العلاقة بين هذه اللحظة وبين السينما وطيدة إلى حدٍّ لا مزيد عليه. السينما فنّ الحداثة بامتياز لكنّ حداثتها الحقيقيّة الخاصّة بها تأخّرت لتعقب تلك اللحظة الهائلة، ويمكن القول دون مجازفة أنّ حداثة السينما، كما عمَّدها سينمائيّو الموجة الجديدة وغواة السّينما الپاريسيّون (رينيه وغودار وشركاؤهما)، هي ابنة لعمليّة الإبادة المنفَّذة على مستوى الإنتاج الصناعيّ الضّخم.

المدنيّة المتقدّمة مسرحًا للجريمة

قيل عن صور أوجين أتجيه الفوتوغرافيّة لشوارع پاريس الخالية في ختام القرن التّاسع عشر (قرن ونيّف من الثورات المجهضة وافتتاح الإمپراطوريّة الثانية، في الجزائر) إنّها اُلتقطت كما لو لمسرح جريمة. لم يكن هذا شيئًا جاهزًا قبل أن يعمل عليه أتجيه وينجز وثائقه البصريّة؛ وإنّما قدم أتجيه أدلّة على ما لم يعد بحاجة إلى سؤال أحد المتمعّنين في صوره: “أليست كل بوصة مربّعة من مدننا مسرحًا لجريمة؟“[1]

أما ماساو أداتشي، فقبْل أن يترك السينما بمعنى من معانيها المفهومة، وينتقل إلى صفوف المقاومة الفلسطينيّة كمقاتل سينمائيّ خاض الحرب الأهليّة لاحقًا، كان قد مارس نظريّته الخاصّة بالمحيط المكانيّ (فوكيرون fukeiron) المتعلّقة بتجربة أتغيه، ولكن هذه المرة في صور متحركة وبالألوان في ياپان ستّينيّات القرن العشرين، متتبّعا، بأقلّ الكلمات (المعلوماتيّة) وبصور لأماكن ومواقع خطّ السّير حصرًا، طريقًا محتملًا (متخيّلًا وحقيقيًّا) لمراهق قاتل، عاطل يبحث سُدىً عن عمل، كانت الميديا قد أغرقت الناس بتغطية إثاريّة لجرائمه («الشّهير أيضًا بالقاتل التّسلسليّ» AKA Serial Killer, 1969).

لقد أخذ شبح الجريمة (جريمة بعينها) أو حضورها المباشر إلى هذا الحدّ أو ذاك، يؤرّقان عددًا متزايدًا من الأفلام بشكل لافت، في شتّى البلدان، المتقدّمة والمتأخّرة، وصولًا إلى يومنا هذا على مشارف الرّبع الثاني من القرن الحادي والعشرين. في «العمل» (سليمان سيسيه، Baara, 1978)[2] كما في «ريح السدّ» (نوري بوزيد، 1986). كما في «قبل الأوان/بعد فوات الأوان» (جان-ماري ستروب ودانييل أُويِّيه Trop tôt/Trop tard, 1981)، والذي يخرج من المدينة الكبيرة في فرنسا وفي مصر، حيث يتلو المعلّقان مستشهدين بماركس وإنجلس ما يبدو وقعه الآن وكأنّه صحيفة الاتّهامات التّاريخيّة في محاكمة عالميّة، بينما تحدّق الصّورة وتصغي مطوّلًا (من الصّعب ألا يحدس المشاهد أنّ تلك البقعة من النّيل التي تحوم الكاميرا فوقها لوهلة لم تشهد على غريق أو أكثر).[3] وكما في «جاين ديلمان، 23 رصيف التّجارة، 1080 بروكسل» (شانتال أكيرمان، Jeanne Dielman, 23 Commerce Quay, 1080 Brussels, 1975)، حيث لا تقع جريمة القتل وتظهر المشاعر إلّا عندما تتعطّل ماكينة العمل المنزليّ والجنسيّ، المرصودة في طقسيّتها وبهائها اللّونيّ والسّلعيّ بأناة وتأمل سخيّ.

هل المصنع مذبح؟[4]

متتبّعًا تاريخ السّينما عشيّة مئويّتها، لاحظ هارون فاروقي أنّ العلاقة الحميمة والقديمة والممتدّة، بين العمل - وتحديدًا العمل الصّناعيّ - وبين الكاميرا السّينمائيّة تتوتّر شيئًا فشيئًا بمرور الزّمن، وتسفر عن مفارقة مؤدّاها اختفاء المصنع تدريجيًّا من الشّاشة - تنفر منه نفورًا - وبروز لحظة خروج العمّال من المصنع في المقابل، إلى حدٍّ دفع فاروقي إلى الاشتغال على تناسخات هذا المشهد الذي دشّنه الأخوان لوميير («العمّال يغادرون المصنع» Arbeiter verlassen di Fabrik, 1995).[5] في تناقض من نوع آخر، اتّخذت السّينما الرّائجة شكلًا يتوافق مع الزّمن المتروك للعامل المأجور بين يوم العمل والآخر وفق نظام العمل الفوردي، ومن هنا مدة السّاعتين المعياريّة، وتقاليد الفيلم التجاريّ للتّرفيه والإثارة والتّنفيس عن التّوتّر والمشاعر، وهو ما تمردت عليه و/أو أرهصت بانهياره تقاليد ما صار يُعرف بالسّينما البطيئة.[6]

تمجيد العمل لدواعي التقدّم الاشتراكي أو التحقُّق الرأسمالي أو التحلّي بحُسن الخُلُق، وتصوير الاحتجاج العماليّ، كلّها على السّواء مادّة خصبة لصنّاع السّينما داخل وخارج نظام الأستوديوهات الكبيرة أو الصّناعة السّينمائيّة الكبرى، وفي العالم الثالث قبل وبعد الاستقلال، وفي السينما الفنّيّة المستقلّة في البلدان الصّناعيّة المتطوّرة. كما تنتظم عبر سيرة العمل البدنيّ المأجور في شكله الحديث تناقضات أزليّة، شغلت الصّور المتحرّكة: التّحرّر والعبوديّة، الاستقلال والتّبعيّة، القوّة والتّعب، النّظام والفوضى، الازدهار والتحلّل، الاغتراب والامتلاك، خفاء العمل والظهور المفرط لمنتجاته. من أجل تصوير العمل، وُلدت أنواع وقوالب وممارسات فيلميّة، تصل إلى حدّ المتابعة الإجرائيّة لجسد الإنسان أو جسد المدينة، دون أن تكون آلة بعينها أو وجود آلة بالضّرورة موضوع النّظرة. ينخرط كثيرون اليوم من غير السينمائيّين (مستخدمي اليوتيوب وإنستاغرام وتيك توك بالأخصّ) في إنتاج الفيديو الصّناعيّ والتّصميميّ، وأدلّة العمل، وأشكال أخرى من الأفلام الإجرائيّة، التي يقترح كتاب حديث الصّدور معاينتها في هذا الإطار.[7]

مصانع الأحلام المهجورة

ولكن ماذا حل بصورة العمل المُمَيْكَن ما بين هزيمة أنظمة الاستقلال العربيّة، ومعها مشروعات التّصنيع في بلدانها، وبين هزيمة المحاولات الثوريّة المتعاقبة لشعوبها في السنّوات الأخيرة؟ ما الذي بقي من الصّورة الرّومانسيّة والنّضاليّة والدّعائيّة للعامل والعمل في حقبتين ظهرت بهما أفلام مثل «العامل» (أحمد كامل مرسي، ١٩٤٣) و«نهضتنا الصّناعيّة» (توفيق صالح، ١٩٥٩)—وهما معًا، للمفارقة الدّالّة على حال صناعة السينما المصريّة ومآل الدّولة في آنٍ معًا، في عِداد الأفلام المفقودة (دولاب عمل لصناعة بلا أرشيف)؟

لقد ربضت هذه الصورة حتّى بعد فوات أوانها، إذ يمكننا مثلًا أن نرى ونسمع في شريط قصير يعود إلى عام الهزيمة نفسه (لعلّه نجا لانتمائه إلى أراشيف صناعة الشّخصيّة ليس إلّا)، كيف يخلو المصنع من عمّاله، على يد خرّيجي معهد السّينما، وتتحول آلاته إلى أشكال فنّيّة تشارك في رقصة ثوريّة على أنغام الموسيقى، بينما يتردد في لحظة نداء (ملتاع تقريبًا) لعامل خفيّ يتحدّث بلسان العمّال مؤكّدًا على أنّهم هم من بنوه («ثورة المكن»، مدكور ثابت، ١٩٦٧).[8] ربّما دون أن يدري الشّباب المقبلون على المأساة وخرائب الأحلام الصّناعيّة الوطنيّة، كانوا يوثّقون دليلًا غريبًا على جريمة مروّعة، وهم يقصدون تصوير حفل بهيج.

خروج/دخول، انصراف/حضور، مغادرة/وصول

يتتبّع برنامج أفلامنا هذا الخيط في أربعة أفلام عربيّة طويلة، وثائقيّة أو وثائقيّة هجينة، ويدعونا إلى التّنبّه إلى جريمةٍ ما تحدث، مسمّاة أو غير مسمّاة، مسرحها هو ذات فضاء الشّغل، على صلة وثيقة بالإنتاج الكبير وتنظيم العمل في ظلّ الوضع القائم بالمنطقة، وحيث هناك جهد من صانعي الفيلم لوضع شروط صُنعه موضع المساءلة والمفاوضة والتّطوير، وفي خدمة بحث مسألة العمل الصناعيّ وجدليّاتها - كأنّ التّحقيق في كلّ واقع(ة) يجب أن يغيّر القانون والواقع والبحث والفنّ معًا - وعلى نحو يجعل من الصّعب فصل هذين الوجهين للصّناعة وهمومها، أو الحؤول دون انتهاء العمل إلى فصل جديد من فصول الجريمة. كما تتردّد فيها - كما في كثير من أخواتها - التّعبيرات عن رغبات الحبّ والمتعة المحاصَرة بعنف. فيما يلي سأحاول وضع أفلام البرنامج الأربعة في سياق أوسع من الأفلام العربيّة منذ نهاية عقد ١٩٦٠ إلى الآن.

في «النيل والحياة» (1968) يعطي يوسف شاهين صوتًا للسّكان المنزوعين من أراضيهم وموطنهم التّاريخي، والمجرّدين من أملاكهم، ضمن سرديّته وتصويره المعقّدين للمشروع الاشتراكي التّنموي الأهمّ[9] في تاريخ النّاصريّة. السّد العالي والفيلم المكّلف به شاهين هما التّعاون الأخير على هذين الصّعيدين بين الجمهوريّة العربيّة المتّحدة والاتّحاد السّوڤياتي. فيلم شاهين الفريد، الذي يفسح المجال أيضًا لأجواء حبّ رومانسي - يحتمل قراءة كويريّة[10] - بين عامل نوبي ومهندس روسي، يتلقّى الرّفض من الدّولتين المشتركتين في إنتاجه، ومن ثمّ يضطرّ إلى العمل المضاعف لإخراج فيلم جديد يرضي مواصفاتهما («الناس والنيل»، ١٩٧٢). تجاهل شاهين وأرشيف السينما الفنّيّة هذه النّسخة الأخيرة التي تعني الدّولة ورُمِّم الفيلم الأصليّ والأصيل أكثر من مرّة.[11]

في «أحداث بلا دلالة» (١٩٧٤) (فيلم البرنامج الختامي) يعود مصطفى الدّرقاوي إلى المغرب من دراسته في أوروپّا الشّرقيّة، بحماس الشّباب المقبل على القيام بثورة سينمائيّة (وهي لحظة يلتقط وأدها فيلم «الحديث عن الأشجار»، صهيب قسم الباري، ٢٠١٩)، ليجرّب ويقارب السّينما التي يريدها المغاربة وهو من بينهم (أي معيدًا طرح سؤال “ما السّينما؟“ على الجميع، والمغاربة بالأخصّ)، ليستقلّوا عن الهيمنة الغربيّة والمصريّة في آن معًا، مستكشفًا حدوده كمؤلّف، ومكتشفًا في سياق العمليّة جريمة قتل عامل في الميناء لرئيسه، والمسافة الكائنة بينه وزملائه المثقّفين من ناحية وبين هذا العامل الذي يقاوم أن يكون موضوعًا لفيلمه من ناحية أخرى. يُمنع الفيلم ويضيع ويعاود الظهور بعد عقود مرمّمًا لنكتشف بدايات ثورة لم تكتمل وربّما لم تحدث من الأصل[12].

أمّا «علي في بلاد العجائب» (جوهرة عبودة، آلان بونامي، ١٩٧٥)[13] (فيلم الأسبوع الثالث)، النّادر والمعاد اكتشافه مرمّمًا بدوره، فينهال على المشاهد بعمّال جزائريّين وغيرهم من العالم الثالث، ينهالون على شوارع باريس حفرًا وبناءً، بينما تتراكب على صورهم صور ثروة واستهلاك المستعمر، بأخبار جرائم منسوبة للمهاجرين، وبشريط صوتيّ يقيم محكمة ودعوى، تدين الظروف التي حالت دون بذل الجهود في الوطن الأمّ، وبناء الاشتراكيّة الدّيمقراطيّة الجزائريّة. تتقاطع طرق السينمائيّ والعامل من جديد داخل عالم «العوامة رقم 70» (خيري بشارة، 1982)، طليعة أفلام الواقعيّة الجديدة في مصر، إبّان تصفية مشروع التّحوّل الصّناعي وبدايات الانفتاح، حيث شبح الجريمة المسكوت عنها في مصنع تتلبّس آلاته صورة الوحوش القاتلة برعاية الإدارة (وصفها بالفاسدة سيكون من نافلة القول).

عشيّة العام ٢٠١١، أنجز أحمد فوزي صالح وثائقيّه الخشن «جلد حيّ» (2010)، عن كَبَد العامل المصريّ الفقير في القاهرة وهلاكه طفلًا ومراهقًا وشاباًّ، على نحو سابق على شروط الرّأسماليّة والأزمنة الحديثة، في المدابغ، التي سيعود إليها بعد سنوات من العام المفصليّ بفيلمه الرّوائيّ الأوّل «ورد مسموم» (2018)، على نحوٍ يوحي إيحاءً قويًّا بعبء الحقيقة وتفجّر جدليّاتها بعد ٢٠١٣، ويترجم الاحتياج إلى تخييلها وإفساح المجال للصّورة على حساب الكلمات، وحيث يدخل على الخطّ بقوّة كذلك خيط الجريمة الجنسيّة السّياسيّة متراكبة الطّبقات، والذاهبة بعيدًا لتشير إلى قلق الحضارة، والضّرورات العتيقة الباقية للتّطوّر الاجتماعيّ الإنسانيّ (تابو المحارم حسب قراءات عديدة، أو عبادة الرّجل في المناطق الشعبيّة، كما يصرّ المخرج في المقابلات). من اللافت، في سياق برنامجنا، قيام الفيلم على رواية تبدأ وتنتهي بجريمة قتل غامضة تودي ببطلها العامل المثقّف.

شهدت سنوات 2011 في مصر ظهور أفلام فنّيّة قليلة عن عنف شروط العمل البدنيّ، لكن من أبرزها «في انتظار العائد من الجبل» (بسّام مرتضى، 2014)، عن العالم نفسه الذي صوّره الفيلم القصير «الجحيم الأبيض» (أحمد عاصم، محمود خالد، عمر شاش، 2018): محاجر الجير الأبيض في شمال الصعيد، حيث يشتري العمّال غير المؤمَّنين بأيّ غطاء صحّيّ أو قانوني فتات قوتهم بمخاطرة عالية ومؤكّدة، ومن جديد تنتمي إلى عالم الرّأسماليّة الأوّليّة.[14] لكنّ الفيلم العربي الأبرز في هذا الاتجاه ومن الحقبة نفسها هو «يلعن بو الفسفاط» (سامي التلييلي، 2011)، والذي يعود إلى التّحقيق في جذور ومآلات احتجاج عمّاليّ مؤسِّس لسيرورة ما قبل الرّبيع العربي، في مناجم الموت والثروة الممنوعة على من ينتجونها بعملهم. من المدهش أن يتعاقب تقديم شخصيّات الفيلم مفتتحين شهاداتهم بطريقة تسجيل اعترافات المجرمين، وبتأطير يؤكّد على أجواء تصوير الجنائيّين.

على غرار فيلم التلييلي، يعود «أموسو» (نادر بوحموش، ٢٠١٩) (فيلم البرنامج الافتتاحي) إلى تجربة نضاليّة فريدة ومذهلة، بدأت في ٢٠١١ وصنعها مجتمع مزارعين أمازيغ تضرّر، على نحو يذكّرنا بفيلم «الأرض» (يوسف شاهين، 1969)، من جرّ المياه الجوفيّة التي كانت تسقي أرضهم إلى أكبر مناجم الفضّة بأفريقيا، فتدخّلوا بعمل ’تخريبي‘، نتجت عنه بعد سنوات واحة خضراء، تضعنا أمام الصّراع المحتدم في عالم اليوم، بين المدافعين عن الكوكب والموغلين في استغلاله حتى آخر شجرة وآخر ناشط من السّكان الأصليّين في الأمازون. هذا الإخلال الخلّاق والمبهج بمنظومة العمل هو أيضا ما يتناوله أحدث أفلام جمانة مناع («يد خضراء»، ٢٠٢٢)، حيث الفلسطينيّون، المستعمَرون (استعمارًا لا يزال مباشرًا) منزوعو الملكيّة والحقوق، يمارسون خلسة نظام التلقيط، المحيل إلى ماضٍ بشريّ سابق على الحضارة في مرحلة الجمع والالتقاط، وإلى فيلم آنييس ڤاردا («الملقِّطون والملقِّطة» Les glaneurs et la glaneuse, 2000)، المتأمّل في أوجه فلسفة وسياسيّات العمل والإنتاج والعيش والإبداع الكامنة في هذا النّوع من الاعتياش.

الاختيارات الشّكليّة الدّاخلة في صلب «برّة في الشّارع» (فيليب رزق، ياسمينة متولي، ٢٠١٥) (فيلم الأسبوع الثاني) هي التي يحضر من خلالها وجه الجريمة في فيلم يبحث موضوع العمل، من خلال تخطيط المسرح، وإعادة التّمثيل، وتسليط الضّوء الانعكاسي على أساسات معالجة الصّراع نفسها (عمليّة صنع الفيلم نفسها، ومفاهيم الحقيقة والحقّ، والقانون، ولغة الإعلام والدّعاية النّضاليّة). الفيلم يستحقّ مقارنة مزدوجة مع فيلمين مقاربين زمنيًّا، يشاركان هذا الفيلم في استخدام تقنيّة إعادة التّمثيل على نحو متّصل: «شعور أكبر من الحبّ» (ماري جرمانوس سابا، ٢٠١٧) و«اصطياد أشباح» (رائد أنضوني، ٢٠١٧)، مقارنة من شأنها استجلاء حضور الجريمة/السّجن/الاستعمار في «برّة في الشارع»، وإحالاته الضّمنيّة إلى تاريخ العنف القمعيّ في مواجهة النّضال العمّاليّ.

يبقى أن أشير إلى ثلاثة أفلام خارج البرنامج: إلى «في ستوديو مصر» (منى أسعد، ٢٠١٨)، وهو وثائقيّ شخصيّ، يرصد تجربة مثيرة عن التباس الخصخصة باستيلاء العامل السّينمائي على مكان العمل، مسلّطًا في سياق ذلك الضّوء على السينما المصريّة كصناعة كبرى من زمن التّطلعات النّهضويّة، آلت إلى مسخٍ أو زومبي يثير خليطًا غامرًا من مشاعر الحبّ والنّفور والرّغبة في مواصلة العمل والرّغبة في مجهول خارج الوضع العالق بين التّخلف الفاسد والحلم بالتّكنولوجيا والتّغيير الثوري، وإلى «في راسي رونبوان» (حسان فرحاني، ٢٠١٥)، والذي يُمسرح مكان عمل بدنيّ عالق بين أزمنة الرأسماليّة على شاشة تتلطّخ بالدّماء حرفيًّا، بينما يسرد عمّال المسلخ خبرتهم في عمل مضنٍ ووحشيّ لا يؤتي ثماره، تخيّم عليه إلحاحات الهجرة التي صوّر أوهامها على الجانب الآخر بُعيد الاستقلال «علي في بلاد العجائب». أخيرًا، إلى «ريش» (عمر الزهيري، ٢٠٢١)، حيث يطلّ الذّبح من جديد، وسط بشاعة الجريمة الزّوجيّة والاجتماعيّة، على خلفيّة صناعيّة موحشة وباعثة على الانقباض.

مراجع وهوامش

(1) ڤالتر بنيامين، في مقالته العائدة إلى ١٩٣١ عن تاريخ الفوتوغرافيا.
(2) أنا ممتن لمحمد أمين، بوكالة بهنا، إذ لفت انتباهي إلى هذا الفيلم وأطلعني عليه.
(3) للمزيد حول هذا الفيلم، انظر مقال جوناثان روزنباوم عن “سينما الأرصاد“ أو “الأرصاد السينمائية“: https://jonathanrosenbaum.net/2021/09/cinemeteorology-serge-daney-on-too-early-too-late
(4) يومئ عنوان هذا القسم إلى مقال لهيتو شتيرل في العدد السابع من مجلة «إ-فْلَكْسْ»، حزيران-آب، 2009، بعنوان “Is a Museum a Factory?“ [“هل المتحف مصنع؟“] https://www.e-flux.com/journal/07/61390/is-a-museum-a-factory
(5) انظر نص فاروقي عن خبرته ونظريته وممارسته في صنع هذا الفيلم: https://www.sensesofcinema.com/2002/harun-farocki/farocki_workers. وقد طور فاروقي لاحقا مشروعا ڤيديويا تعاونيا ذا صلة، “العمل في لقطة واحدة“. انظر: https://www.labour-in-a-single-shot.net/en/project/concept
(6) انظر مقالة مويرا وايغل عن تاريخ وجماليات السينما البطيئة في العدد 25 (ربيع 2016) من مجلة «إنْ پْلَس وَنْ» n+1 https://www.nplusonemag.com/issue-25/essays/slow-wars
(7) The Process Genre: Cinema and the Aesthetic of Labor, Salomé Aguilera Skvirsky, 2020, Duke University Press. وللمزيد حول هذه النقطة، ولمطالعة مقال سابق للكاتب والقيِّم عن برنامج أفلام ذي صلة (ثيمته ما يُقترح تسميته “أفلام التصميم“)، انظر: “الأشباح التي تسكن مصر في هذه الأفلام الوثائقية الخمسة“: https://www.warehouse421.ae/makers-in-the-sun/?setLang=ar#anchor_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B4%D8%A8%D8%A7%D8%AD_%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A_%D8%AA%D8%B3%D9%83%D9%86_%D9%85%D8%B5%D8%B1_%D9%81%D9%8A_%D9%87%D8%B0%D9%87_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%81%D9%84%D8%A7%D9%85_%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AB%D8%A7%D8%A6%D9%82%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%85%D8%B3%D8%A9
(8) أنا ممتن لمصطفى يوسف، بأفلام س، إذ لفت انتباهي إلى هذا الفيلم وشاركني إياه.
(9) الأهم رمزيا، أما المشروع الصناعي الأكبر حقا فهو الشركة المصرية للحديد والصلب (إيسكو). انظر مقال مَلَك لبيب عن إعادة تشكيل “المصنع الاشتراكي“ في مصر: https://trafo.hypotheses.org/28429
(10) انظر هنا https://notesonfilm1.com/2020/07/09/the-youssef-chahine-podcast-no-7-un-jour-le-nile-an-nil-oual-hayat-egypt-ussr-1964/ وهنا https://notesonfilm1.com/2020/07/13/the-youssef-chahine-podcastno-9-a-return-to-a-later-version-of-un-jour-le-nil-people-of-the-nile-1972/ للاستماع إلى حلقتين من پودكاست سلط الضوء على الجانب الكويري ضمن جوانب أخرى.
(11) للمزيد، انظر: « Un fleuve d'amour », Yousry Nasrallah, La Persistance des images, Cinémathèque Française Musée du Cinéma, Paris, 1996. https://www.cinematheque.fr/catalogues/restaurations-tirages/film.php?id=64366#autour-du-film وانظر أيضا: Malek Khouri, The Arab National Project in Youssef Chahine's Cinema, AUC Press, 2010 (pp. 67-74)
(12) استلهمت هذا الوصف من تقديم رتشارد برودي لفيلم ويليام غريڤز الذي يمثل حالة قابلة لمقارنة مثيرة، «سمبيوسايكوتاكسيپلازم: أول مرة» (Symbiopsychotaxiplasm: Take One, 1968): “ماذا لو أن بعضهم قام بثورة ولم يرَها أحد؟“ https://www.newyorker.com/culture/richard-brody/daring-original-overlooked-symbiopsychotaxiplasm-take-one
(13) قارنه بتعاونهما السابق في الفيلم القصير «سينيسيتيه» [«المدينة السينمائية»] (Cinécité, 1974).
(14) للمزيد عن هذين الفيلمين، انظر مقال هوجلا-كلفت، سبق ذكره.