بقلم ميريام ساسين (منتجة أفلام)
عندما نالت حركة #أنا_أيضًا انتشارًا واسعًا وراح المزيد من الأصوات يرتفع للمطالبة بالمساواة بين الجنسين في الصّناعة السينمائيّة، أدركتُ للمفاجأة أنّ السينما العربيّة لا تعاني أصلًا من هذا النّوع من التّمييز. تعمل النّساء في العالم العربي في مختلف مجالات السينما وتنلن أحيانًا اعترافًا بتميّزهنّ أكبر من ذاك الذي قد يناله الرجال، محليًّا وعالميًّا. تُعتبر كّل من التونسيّة درّة بوشوشة والمصريّة ماريان خوري من أهمّ المنتجين المستقلّين في يومنا هذا وقد ساهمتا بإطلاق المسيرة المهنيّة لكبار السينمائيّين العرب. فازت السينمائية اللبنانيّة رندا الشّهال عام 2003 بالجائزة الكبرى للجنة التّحكيم في فينيسيا عن فيلمها طائرة من ورق. ترشّح كلّ من فيلمي كفر ناحوم للّبنانيّة نادين لبكي، والرّجل الذي باع ظهره للتّونسيّة كوثر بن هنيّة لجوائز الأوسكار وما فتئت آن ماري جاسر من فلسطين وأليان الرّاهب وجوانا حجي توما من لبنان وهيفا المنصور من المملكة العربيّة السّعوديّة ينلن اعترافًا دوليًّا مضطردًا كما انضمّت مهندسة الصّوت رنا عيد إلى لجنة تحكيم مهرجان برلين الدّوليّ في دورته المنعقدة هذه السّنة… هذه أسماء قليلة من بين أسماء مئات النّساء اللواتي أنعشن السينما العربيّة وما زلن يشكّلن مصدر إلهام للأجيال الجديدة من السينمائيّين الشّباب. تَعرض هؤلاء النّساء أمام العالم لمحة عمّا يمكن لمجال سينمائيّ يساوي بين الجنسين أن يقدّمه من قوّة وتنوّع.
أسباب هذا التّوازن داخل مجتمع عربيّ أبويّ تكافح فيه النساء يوميًّا لنيل أبسط حقوقهنّ، غير واضحة المعالم. أعتقد أنّ السينما في معظم أرجاء العالم العربيّ، ليست صناعة منظّمة بل ربّما مجرّد حرفة، هواية مكلفة بلا أيّ عوائد تجاريّة. في سعيهم لصناعة أفلام مؤلّف مستقلّة، يُنظر إلى كلّ من الرّجال والنّساء كمتمرّدين حالمين. في حال هؤلاء فإنّ صناعة فيلم تعني حكمًا خوض معركة مع البلاد والمجتمع والمحيط. رويدًا رويدًا راحت المواهب النّسائيّة تلمع في هذه المهنة التي تتطلّب مزيجًا من الإبداع ومهارات الإدارة والمقاربات العمليّة. مع ازدهار السينما العربيّة أصبحت المرأة جزءًا لا يتجزّأ منها ممّا مهّد الطّريق بطبيعة الحال أمام الأجيال الصّاعدة.
في لبنان وبعدما نلت شهادتي في الدّراسات السينمائية وانضممت إلى شركة أبّوط للإنتاج، فإنّي وإن كنت لم أرَ في كوني امرأة أيّ أنجاز كبير، لم أر فيه كذلك الأمر أيّ عائق. وجدت نفسي محاطة بنساء ملهمات، مخرجات ومنتجات ومديرات تصوير ومصمّمات صوت ومصمّمات أزياء ومديرات فنّيّات وغيرهنّ من النساء واسعات الحيلة اللواتي نجحن في تخطّي كلّ أنواع العوائق. فيما رحت أمارس مهنة الإنتاج وجدت نفسي بطبيعة الحال أميل لإنتاج أفلام لمخرجات نساء. وجدت أنّني أتوافق تمامًا مع نظرتهنّ للكون وتعاطفهنّ ومثابرتهنّ. أتاح لي العمل مع كورين شاوي وميريام الحاج ورنا عيد ومنيه عقل إنتاج أفلام أفتخر بها. وسّعَتْ عوالمهنّ عالمي وطوّرته وأغنته.
إذ أتأمّل في العلاقة بين الرّجال والنّساء في الصّناعة السينمائيّة، أستغلّ فرصة برمجة أفلامنا لهذا الشّهر لأسلّط الضّوء على أفلام لمخرجات غامرن بتخطّي راحتهنّ الشّخصيّة واقتحمن عوالم يهيمن عليها الرّجال. تُقدّم لنا هذه الأفلام نظرة ثاقبة على أماكن غير مألوفة، أفلام لا تتوانى مخرجاتها عن استكشاف العواطف والتّحقيق في مواضيع حسّاسة في السّياسة والاجتماع والدّين. من خلال استخدام أشكال وأنواع سينمائيّة مختلفة، من الوثائقي إلى الرّوائي ومن الكوميديا إلى الدراما، تتميّز جميع أفلام هذه البرمجة بحنان النظرة النسائيّة وطراوتها وعطفها. ردت المخرجات لشخصيّات أفلامهنّ انسانيتهم المنسية، تلك الشخصيّات التي قد تبدو للوهلة الأولى هالكة لا محالة – من إسلاميّين متطرّفين ومدمني مخدّرات ورجال فحلاء يعانون من الملل وملاكمين مكسوري الجناح. تعاطفهن مطلق وعبر أفلامهنّ، أتحن أمام الجمهور فرصة لتأمّل الذات ولكسَرَ دائرة التّهميش المفرغة.
رانيا عطيّة مخرجة لبنانيّة من مدينة طرابلس، تصنع أفلامًا منذ عشرين عامًا بالشراكة مع دانيال غرسيا. عام 2009 أخرجا معًا فيلم طرابلس علهدا وهو فيلم قصير من بطولة دانيال أرزوني في دور سائق تاكسي يحاول كسب رزقه في شوارع طرابلس، مسقط رأس عطيّة. ذات يوم، يجد السّائق في سيّارته طفلًا لا ينطق بكلمة. مغتاظًا، لا يعرف ما يمكن أن يفعله بهذا الطّفل فيقرّر أن يتركه مع والدته التي تلعب دورها نديمة عطيّة. يأخذنا هذا الفيلم الفكاهيّ القصير الذي يجمع بين سائق سيّارة أجرة نزق المزاج وامرأة عجوز وطفل شقيّ، في نزهة عبر ثاني أكبر مدن لبنان ويزرع بذور الفيلم الأوّل الطّويل للمخرجين رانيا عطيّة ودانيال غرسيا. كما طرابلس علهدا، تدور أحداث فيلم طيّب خلص، يلا في طرابلس ويمثّل فيه كلّ من دانيال أرزوني ونديمة عطيّة، جدّة رانيا عطيّة. رجل أربعينيّ يدير محل حلويات يعيش مع والدته ويتشاجر معها طوال اليوم. بعد واحدة من مشاجراتهما تضيق المرأة ذرعًا بابنها فتتركه دون سابق إنذار وتذهب إلى بيروت. يرتبك الرجل من دون أمّه. يخفي عن محيطه رحيلها ويغرق في الوحدة والملل. يلتقي بفتاة يُشتَبَه في كونها مومس، كانت تراسله عبر الرّسائل النّصيّة. يوظّف عاملة منزل أثيوبيّة لا تتواصل معه نهائيًّا وترفض أيّ طعام. طيّب خلص، يلّا قصّة نضوج غير تقليديّة لرجل خجول ذكوري لا يقدر على العيش من غير النّساء رغم عدم قدرته على التأقلم في حضورهنّ. الفيلم تأمّل اجتماعيّ نقديّ في المفهوم المعاصر للرّجولة في لبنان، رجولة تخفي ضعفها لتتناسب مع معايير المجتمع الأبويّ حتى حين تتضارب تطلّعاتها مع متطلّبات هذا المجتمع. أنتج المخرجان الفيلم بميزانيّة جدّ متواضعة حيث اضطرّا لتبوّؤ العديد من الأدوار في فريق العمل، من التّصوير إلى الإدارة الفنّيّة وصولًا إلى المونتاج. يقدّم الفيلم لمنظورين مختلفين، المذكّر والمؤنّث، المحلّيّ والأجنبي، راسمًا صورة دقيقة ومعقّدة لكلّ من الشخصية الرئيسية ومدينة طرابلس. تمّ تقديم الفيلم في مهرجان كارلوفي فاري السينمائي في عام 2011 وفاز بالعديد من الجوائز في مهرجانات سينمائية مهمّة. هو فيلم كوميديا سوداء تناول موضوع كراهيّة النّساء والعنصريّة ولم يدرك صنّاعه طابعه الفكاهيّ إلّا بعدما شاهدوه مع غيرهم من النّاس.
غالبًا ما تستخدم المخرجة التّونسيّة كوثر بن هنيّة الفكاهة لمعالجة مواضيع حسّاسة، وهي من أغزر المخرجين إنتاجًا في العالم العربيّ. تتمحور مواضيعها الرّئيسيّة حول الاعتداء الجنسيّ كما الحال في الفيلمين، “الوثائقيّ المزيّف شلاط تونس (2012) والدراميّ الطّويل على كفّ عفريت (2017). تبرز هنيّة في الفيلم الأخير النّظام “الكافكيّ” العبثي الذي فرضته سلطة “الرّجال”، وهو نظام يحتمون به فيما يترك النّساء في موقع الضّعف الشّديد. تعود بن هنيّة لتستكشف هذه البنية الكافكيّة في فيلمها الأخير، الرّجل الذي باع ظهره. الضعفاء فيه هم اللاجئون أو أولئك الذين لا يحملون جواز سفر ذات قيمة. ومن مواضيع بن هنيّة المفضّلة التّدقيق في الدّين والتّطرّف الذي يمكن أن ينتج عن الإسلام المشوّه. ظهر ذلك أوّلًا في فيلمها الوثائقيّ الأئمّة يذهبون إلى المدرسة (2010) ولاحقًا في فيلميها القصيرين يد اللوح (2013) وبطّيخ الشّيخ (2018). في هذا الفيلم الأخير الذي بُني كمسرحيّة فودفيل، يتعرّض شيخ للخداع من خلال مخطّط يرتبط بفاكهة البطّيخ. سيضطرّ الشّيخ لمواجهة العواقب النّاتجة عن هذا الفخّ إذا ما اعترف بوقوعه فيه، لذا يختار إخفاء الحقيقة ويدخل بالنّتيجة في دائرة مغلقة من النّفاق. يسعى مساعده، السّوريّ الجهاديّ السابق الذي يطمع بمنصب شيخه، إلى الاستفادة من هذا الموقف. بنبرة كوميديّة لطيفة، تصوّر بن هنيّة رجالًا يخونون بعضهم البعض كاشفة استخدام الدّين بشكل مخادع وخبيث وتسخيره في العمل السّياسيّ للاستيلاء على السلطة وفرض الأيديولوجيّات.
لم تسلك مخرجات الأفلام الوثائقيّة أريج سحيري وميريام الحاج وديالا قشمر وساندرا ماضي، الطريق الأسهل عند صناعتهنّ لأفلامهنّ الأولى، بل اخترّنَ اقتحام بيئات يهيمن عليها الرّجال وتصوير مواضيع من المحرّم تناولها في الأفلام.
ساندرا ماضي مخرجة أفلام فلسطينية أردنيّة جريئة. تصوّر في فيلمها قمر 14، فرج محمود الملاكم الشّاب الذي يعيش في مخيّم البقعة للّاجئين الفلسطينيّين في الأردن. يطمح الشّاب أن يُخلِّد اسمَه عبر تحقيقه بطولات أولمبيّة. يحالفه نجاح متواصل إلى أن يتحطّم حلمه تمامًا بعدما يرفض اللّعب في مواجهة ملاكم “إسرائيليّ”. بدلًا من دعم بطله، يقرّر الاتّحاد الأردنيّ للملاكمة إيقافه عن اللّعب مدى الحياة. ليس قمر 14 قصّة أمل فحسب بل أيضًا قصّة خيبة وظلم يمتدّ عبر الأجيال. تلتقط ماضي الطّاقة المتفجّرة في جلسات التّدريب وتستخدم لقطات من منازلات محمود لتضعها في تناقض مع حالة الجمود التي تجتاحه عند انهيار عالمه. رافضًا البحث عن وظيفة أخرى ومنتفضًا على الظّلم الذي أُلحق به، يعلن فرج محمود عن إحباطه الصّارخ ويكشف عن الظروف الأليمة لحياته في المخيّم. في نهاية الأمر يعترف محمود بالتّعب الذي أنزلته به أعباء الحياة. يُسرّ إلى المخرجة أعمق مشاعره. تبادله الثّقة بأن تقف منه على المسافة الصّحيحة طوال الوقت. لا تتعاطى معه أبدًا من منظور الشّفقة، لا تقوم بتمجيده، بل تسمح بانسياب الرّواية وتثبّتها في الذاكرة. صورته الأخيرة في الفيلم وهو يركض منطلقًا إلى الأمام إنّما تعكس التّفاؤل والمثابرة.
مسلّطة الضّوء على حال الفشل في بلدها أخرجت أريج سحيري فيلم عالسّكّة عام 2018 لتندّد فيه بالإهمال الذي يطال سكك الحديد التّونسيّة ممّا يُعرّض سائقي القطارات وركّابهم للخطر. تحققّ سحيري بلا أيّ مواربة بالفساد واللامبالاة الذين راحا ينموان باضطراد في تونس ما بعد نشوة الثورة. مع ذلك، تعترف المخرجة في مقابلاتها الإعلاميّة بتغيير إيجابيّ، فإنتاج فيلم كفيلمها لم يكن ممكنًا قبل العام 2011. يؤكّد ذلك على جرأة موضوعها.
من القضايا المثيرة للجدل قضيّة الحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975 – 1990) تلك الحرب التي حتى اللحظة لم تروَ بشكل كامل. في فيلم هدنة (2015) تواجه ميريام الحاج رجال عائلتها، مقاتلين قدامى في ميليشيات اليمين المسيحي طوّروا اليوم شغفًا بهواية الصّيد. من خلال الوقت الذي تمضيه في متجر عمّها وأثناء مرافقتها للرجال في رحلات صيدهم، تكشف المخرجة عن تناقضاتهم إذ يروون لها قصصًا لم يكونوا ليخبروها لأيّ رجل. مطمئنّين لحبّها لهم ومدركين عدم سعيها للحكم على أفعالهم، يرحّبون بها في عالمهم. شيئًا فشيئًا يكشفون لها عن أغوار أفكارهم بما يسمح للجمهور أن يفهم معتقداتهم والأسباب التي دفعت بهم إلى ارتكاب جرائم حرب، جرائم يصعب غفرانها. بألوان الأرض الترابية والخضراء وبإيقاع فاتن، يشجب فيلم هدنة هذا الماضي الذي يلقي بثقله على الحاضر. إنّ غياب انتقال ما حدث من جيل لآخر وغياب تسوية حقيقية بعد انتهاء الحرب، أدّى بكلّ طرف لتبنّي روايته الخاصّة للأحداث. تمسّك الجميع بمعتقداته ممّا أدّى بطبيعة الحال إلى المزيد من التّفرقة والانقسام وحال دون التّوصّل إلى مصالحة حقيقيّة.
تستكشف ديالا قشمر في فيلم أرق تداعيات الحرب الأهليّة اللبنانيّة عبر تصوير بعض شباب منطقة “حيّ اللّجا” في بيروت؛ مجموعة عنيفة من مدمني المخدّرات المهمّشين الذين يتَحَدّون سلطة القانون في كلّ وقت والذين ينظرون إلى دخولهم السّجن ثمّ خروجهم منه مرارًا وتكرارًا كمجرّد انعتاق من رتابة الحياة المملّة. تستثمر قشمر، وهي ممثّلة قبل أن تصبح مخرجة ومنتجة، الوقت الكافي لكسب ثقة الشّخصيّات وتوثّق بالكاميرا هذا المسار. تستحصل من كلّ الأطراف المعنيّة على موافقتهم اللازمة للتّصوير، تطفئ الكاميرا متى طُلب منها ذلك وتشرح للرّجال الذين تصوّرهم حقيقة دوافعها موضحةً طبيعة الفيلم الذي تصنعه: “هو فيلم وثائقي سينمائيّ وليس تقريرًا تلفزيونيًّا”. تثمر جهودها انفتاحًا تدريجيًّا لدى مجموعة الشّباب المهيبة. يلين الشّباب في وجودها ليظهر ضعفهم ولتبرز للعيان جوانب أخرى مخفيّة من شخصيّاتهم. هم فخورون بنفسهم يعتزّون بها، يحمون أحبّاءهم بالتزام، عاطفيّون قادرون على المرح، مجروحون قادرون على النّدم، هكذا يعترف الرّجال للكاميرا بخيباتهم وتطلّعاتهم. “ما حلمكم؟” تسأل المخرجة. يجيب أحدهم: “أن أعود لأبدأ حياتي من جديد. أريد أن أقدر على الزّواج. كلّنا نحلم بالزّواج وبإنجاب الأطفال”. يشارك الشّباب إحباط رفيقهم في ما يخصّ الحب وكلفة العيش. يبوح آخرون لاحقًا: “من هي الفتاة التي ستتجرّأ على حبّنا؟ بعد عشر سنوات من الآن سنبقى نجلس هنا في نفس المكان أو سنموت، لقد أهدرنا حياتنا في تعاطي الكثير من المخدّرات. قد يقول البعض أنّ فرص العمل غير متوفّرة ولكنّنا في حقيقة الأمر لا نريد أن نعمل، لا نرغب بالعمل وكلّ ما نرغب به هو بلوغ نشوة المخدّرات”. بهذا البوح يستعيد الرّجال إنسانيّتهم، أولئك الذين كنّا نخافهم أو نحتقرهم يستعيدون في عيوننا إنسانيّتهم. في اقتحامها لهذا العالم المغلق تثبت قشمر أنّ الطّريقة الوحيدة لتفادي نشوب حروب جديدة إنّما تكمن في قدرتنا على خلخلة أسس الإنقسامات السّياسيّة والاجتماعيّة في لبنان وفي احتضاننا للمهمّشين علّنا نعيد بناء مجتمع موحّد.
تستكشف المخرجة صوفيا جاما تصدّعات بلدها الجزائر في فيلم السّعداء (2017) الذي عُرض للمرّة الأولى في مهرجان البندقيّة السّينمائيّ والذي حازت عنه الممثّلة لينا خضري على جائزة أوريزنتي لأفضل ممثّلة واشتُهرت مذّاك الحين لتلعب مؤخّرًا دورًا. في فيلم المخرج ويس أندرسون (2021). هذا وفاز السّعداء بجائزة برايان التي تُمنح للأفلام التي تدافع عن حقوق الإنسان والدّيمقراطية والتّعدديّة وحريّة الفكر، كما فاز بجائزة لينا مانجياكابر التي تُمنح للأفلام التي تغيّر طريقة تقديم المرأة على الشاشة السينمائيّة. تدور أحداث الفيلم على مدار ليلة واحدة في الجزائر العاصمة عام 2008 بعد ستّ سنوات من العشريّة السّوداء ليقدّم صِدام جيلين من الجزائريّين. أصابت الخيبة أولئك الذين أمضوا شبابهم في ظلمات الإرهاب وهم اليوم يعانون من الصّدمة ويسعون جاهدين لاستعادة بعضًا من الحياة الطّبيعيّة بعد عشر سنوات من العنف، هذا في حين لا ينشد الجيل الجديد غير حياة هانئة وغير مبالية. عالقًا بين جراح الماضي وتحدّيات الحاضر وضبابيّة المستقبل، يكشف الفيلم عن أمّة ممزّقة تنقسم على نفسها. تلعب امرأتان دور البطولة في الفيلم. تزوّجت نوال من سمير منذ أكثر من عشرين سنة. ترتفع نسبة القلق عندها فيما يستعدّان للاحتفال بعيد زواجهما. نادمةً على البقاء في الجزائر، تتمنّى أن تُجنّب ابنها فهيم المصير ذاته. على عكسها فإن زوجها يتعلّق بشدّة بالوطن ولا يشاركها الرّأي. هذه نوال، أمّا فريال فامرأة قويّة شابّة تُخفي ندبةً عميقة. تعيش فريال مع والدها وشقيقها الذين يتذمّران من عدم اعتنائها بهما وبالمنزل كما يجب. هي تفضّل تمضية الوقت مع صديقيها فهيم ورضا بالإضافة إلى رجل غامض يكبرها بضعف عمرها وتربطه علاقات مع السّلطة القائمة. تثور فريال ونوال على الذكوريّة العدائيّة التي تحيط بهما من كلّ حدب وصوب. مقاتلتان تسعيان للمضيّ قدمًا في بلد ما انكفأ يكسر أجنحتهما. تُظهر صوفيا جاما استحالة التطوّر في مجتمع عالق بين الرجعيّة الدّينيّة ورغبته بالحرّيّة. يجسّد فيلمها الصّراع للنجاة وسط حالٍ من الألم والفقدان. يلتقط الفيلم لحظة انتقاليّة في تاريخ الجزائر، لحظة تطوّر تتنبّأ باتّّحاد الجزائريّين عام 2019 للمطالبة بحقّهم في العيش في بلاد تحتضنهم ولا تدفعهم للهجرة. تدافع جاما عن السّعادة كوسيلة من وسائل الصّمود. “لم أفهم أبدًا لماذا يتوجّب علينا إخفاء فرحنا. لا يجب أبدًا حجب السّعادة. بل يجب أن يُسمح لها بالإشراق لأنها تسري وتنتقل، تمنح الأمل وتشجّع الآخرين على اختيارها. إنّ اختيار السّعادة يتطلّب شجاعةً، خاصّة في بلاد لم تمنحنا سببًا للسّعادة، لم تمنحنا أبدًا ما يمكن أن نتطلّع قدمًا إليه. السّعادة في هذه البلاد هي فعل مقاومة”.
في فيلمها الثالث واجب (2017) تستكشف آن ماري جاسر الانقسامات الاجتماعيّة والسّياسيّة التي يمكن ملاحظتها في الصّدام بين الأجيال وذلك بأسلوب لطيف وعذب. الفيلم من بطولة الممثّلين، صاحبَي العيون الزّرقاء المذهلة، الأب محمّد بكري وابنه صالح بكري. على مدار أحد أيّام الشّتاء في النّاصرة، يوزّع أبو شادي وابنه شادي دعوات حفل زفاف أمل، ابنة أبو شادي وأخت شادي. بعد طول انقطاع ومع تمضيتهما الكثير من الوقت معًا سواء في السّيّارة أو لدى زيارتهما للأقرباء، يعيد الرّجلان وصل ما انقطع بينهما من تواصل. سرعان ما تعود خلافاتهما للظهور. يتخطّى الفيلم المشاجرات المعتادة بين الأجيال ليكشف عن حال التوتّر والخيبة وعن تبادل اللوم بين أولئك الذين رحلوا عن البلاد وأولئك الذين اختاروا البقاء فيها، كما يصوّر الحياة اليوميّة للطّبقة الفلسطينيّة الوسطى تحت نير الاحتلال في النّاصرة. فيلم واجب فيلم يسمو بالحبّ، عُرض للمرّة الأولى في مهرجان لوكارنو السّينمائيّ وحاز على أكثر من عشرين جائزة حول العالم.
صراع الأجيال وتصادم الأيديولوجيّات من صلب المواضيع التي يعالجها فيلم إخوان (2018) لمريم جوبور، الفيلم القصير الذي ترشّح لجوائز الأوسكار. في الرّيف التّونسيّ، يشعر أب لثلاثة أبناء بالكَدر عندما يعود إلى البيت الابن البكر الذي كان قد اختفى لينضمّ للقتال في صفوف داعش في سوريا. يعود الابن مع عروسه وهي فتاة قاصر تحتجب خلف النّقاب. يعجز الأب عن مسامحة ابنه. من ناحية فإن التّحوّل إلى التّطرّف جُرح يحفر عميقًا في النّفس ومن ناحية أخرى فإنّ الأب يريد أن يبقى قدوة يحتذي بها ولداه الأصغر سنًّا. يلتزم الابن البكر الصّمت. تبدو عليه علامات النّدم. هو كوالده، كتوم معتزّ بنفسه. كلاهما يعاني ليتواصل مع الآخر. تحافظ الأمّ على السّلام داخل هذه الأسرة الهشّة. تحاول الأمّ أن تغيّر من قناعة زوجها وتستقبل ابنها بالتّرحاب الحارّ فأمره يهمّها أكثر من كلّ القيم. يتميّز فيلم إخوان بصوره السينمائيّة المذهلة وبمناظره الطّبيعيّة الخلّابة بالإضافة إلى ملامح ممثّليه الحادّة تحديدًا الأخوة ذوي الشّعر الأحمر وهم في الواقع إخوة بالولادة. يقدّم الفيلم نظرة دقيقة إلى التّنوّع في العالم العربيّ الإسلاميّ بالإضافة إلى معاناة العائلات التي ذهب أبناؤها للقتال في صفوف داعش ليعودوا على الفور بعدها ويعربوا عن ندمهم على ذلك. يواظب الفيلم التّنقّل بين ديناميّات حبّ الأمّ من جهة ومقاربة الأب الأكثر انضباطًا من جهة أخرى والمقابلة بينهما. “بصورة نمطيّة يتمّ تقديم النّساء في المنطقة كوادعات خاضعات. “أردت أن أبتكر شخصيّة امرأة مستعدّة للقتال من أجل أولادها، لا تخشى مخاطبة زوجها ومواجهته” تقول جوبور. ليس من المستغرب إذًا أن تختار المخرجة التّوسّع في معالجة هذا الموضوع في فيلمها الطّويل الأوّل الذي تعمل اليوم على إنجازه. يستكشف الفيلم الطّويل “الأمومة” تعرّض حبّ الأمّ للاختبار المتواصل والذّنب الذي يجتاح الذات البشريّة.
من خلال التّأمّل في الصّراعات بين الأجيال وإخراج شّخصيّات هالكة من هلاكها المفترض وعبر التّعبير عن المشاعر المكتومة وتوصيف المخرجات للانقسامات في بلدانهن، تُظهر هذه البرمجة مدى قدرة النّظرة الأنثويّة للمخرجات على إغناء السّينما العربيّة وعلى تنوير الجمهور حول صراعات الرّجال باطنيّة كانت أم ظاهرة. ختامًا، لا يمكن للمرء إلّا أن يتمنّى ولادة المزيد من هذه الأفلام التي تقدّم وجهتَي النّظر لتساهم في خلق عالم أكثر عدلًا وتوازنًا من ذاك الذي نعيش فيه اليوم.