روابط الوصول

في صباح يوم 9 أيلول 2021، اتّصل بي الصديق نجا الأشقر، الذي كان خسر والده في الليلة الماضية ليخبرني أنّ برهان علويّة قد غادرنا بدوره. وكأنّ الآباء يرحلون ويتركوننا أيتاماً في بلد لا يوجد فيه أب جامع يهتمّ بمواطنيه ويمنعهم من التحوّل إلى أموات-أحياء كما في أفلام الرعب التي وقّعها جورج روميرو. تليق ببرهان علويّة صفة الأب وتحديداً الأب الروحي لما نقدر أن نسمّيه السينما اللبنانيّة الجديدة، التي ظهرت في السبعينيّات وجاءت مواكبة للسينما البديلة التي تحاكي واقعها وتخرج من دهاليز الترفيه السطحي والتقليد. كان برهان رائداً في هذا المجال مع جيل ضمّ مارون بغدادي وجوسلين صعب وهيني سرور ورندة الشهال وجان شمعون وغيرهم. انطلقت سينما برهان علويّة من القضيّة الفلسطينيّة الجوهريّة لتنفتح على عالم عربي كان يشهد على ما بعد هزيمة 1967 وصعود المقاومة الفلسطينيّة والانقلابات العسكريّة، فبحثت هذه السينما عن الهويّة والجذور وانتقلت من سوريا إلى مصر. لكنّ الحرب اللبنانيّة التي اندلعت في العام 1975 كانت تنذر بنهاية الأحلام التغييريّة الكبيرة مقابل ترسيخ العصبيّات القبليّة وزعزعة صورة المدينة الجامعة والتقدميّة: بيروت. منذ الثمانينيّات، التصقت أفلام علويّة بالعاصمة اللبنانيّة ضمن مجموعة من الرسائل السينمائيّة التي تغطّي بطريقة ما تاريخ بيروت بين السبعينيّات ومطلع القرن ال 21، فتلاحقت العناوين “بيروت اللقاء” (1981)- “رسالة من زمن الحرب” (1984)- “رسالة من زمن المنفى” (1988)- “إليك أينما تكون” (2001) و”خلص” (2007). تميّزت سينما علويّة بعقد الزواج الذي وقّعته بين الأفلام الروائيّة والوثائقيّة ضمن مقاربة دخلت عليها الشاعريّة. فعكست هموم صاحبها ونظرته التي ازدادت تشاؤماً مع الوقت وكأنّ الشاب الذي شهد على الثورة الطلابيّة في فرنسا 1968 وصعود اليسار العالمي وهو يتابع دراسته في معهد السينما في بروكسل، راح يشهد أيضاً على الهزائم اللبنانيّة والفلسطينيّة والعربيّة بشكل عام. عند اندلاع ما سمّي بالربيع العربي، كانت أوّل مرّة أرى فيها العزيز برهان يستعيد الأمل بإمكانيّة التغيير ولكنّ الأحلام اضمحلّت بسرعة لتأخذ علويّة من جديد إلى المنفى… حتّى النهاية.

نلتقي ببرهان عبر محطّات سينمائيّة تسمح لنا بمرافقته خلال أكثر من 30 سنة وكأنّنا نشهد معه أيضاً على تحوّلات عربيّة وعلى رسائل صوتيّة بين فلسطين ولبنان وسوريا والأردن، بين بيروت الغربيّة والشرقيّة، بين بيروت والجنوب، بين بيروت وباريس وبروكسل، بين النهار والليل، بين الحاضر والماضي…

كفر قاسم: رسالة محوريّة عن فلسطين

عرف علويّة كيف يتناول الواقع الفلسطيني وكيف يُظهر مفاعيل الاحتلال الاسرائيلي وانعكساه على المجتمع الفلسطيني وتكوينه فجاء “كفر قاسم” (1974) كأحد أوّل وأبرز الأفلام السينمائيّة العربيّة التي أخرجت القضيّة الفلسطينيّة من بازار البروباغندا والخطابات الخشبيّة. لم يكن “كفر قاسم” الفيلم الأوّل الذي يتحدّث عن الاحتلال الاسرائيلي ومجازره ولكن أهميّته تكمن في كيفيّة معالجة الموضوع. مقابل سطوة الخطاب القومي والوطني في قرية “كفر قاسم”، يعيدنا برهان علويّة إلى الأرض لنسمع صرخة الإنسان الفلسطيني العادي الذي أضاع أفراد عائلته منذ النكبة سنة 1948 فانتشروا في الأردن وسوريا ولبنان. هناك مأساة المقيمين ومأساة الشتات فكلّ عائلة تمزّقت حتّى أنّ البعض لجأ إلى تغيير اسمه مثل عبدالله الذي يعمل في أحد المقاهي في تلّ أبيب وأصبح معروفاً باسم إيلي منعاً لإثارة حساسيّة الزبائن اليهود. إنّها عمليّة إلغاء شاملة لا تنتهي مع سرقة الأرض وشرذمة المجتمع بل تجعل المواطن الأصليّ يظهرعلى شكل تذكار يُباع للسوّاح وكأنّه لعبة تسمح لمقتنيها أن يتسلّى بشنق العربيّ.

يتابع فيلم علويّة استكشاف الحياة اليوميّة في قرية كفر قاسم الفلسطينيّة معتمداً على إيقاع فيلم وثائقيّ وكأنّ الكاميرا موجودة مع السكّان الأصليّين سنة 1956. تلعب بلدة “الشيخ سعد” في سوريا وهي قريبة من مدينة طرطوس دور قرية “كفر قاسم” في الفيلم. فمع احتلال أرض فلسطين، يُعاد تكوين الأراضي المسلوبة على أراضٍ عربيّة أخرى سينمائيًّا قبل أن يصوّر مخرجو الداخل الواقع ابتداءً من الثمانينيّات. إذاً يتمّ اختيار مساحة قد تكون شبيهة بكفر قاسم ومن اللافت أنّ الكاميرا تصوّر الأراضي أيضاً من الجوّ وكأنّها بالفعل تسترجع المساحة المسلوبة. أمّا مدينة تلّ أبيب فيبدو إعادة تكوين أحد شوارعها أقرب من فترة إنتاج الفيلم أي السبعينيّات من حيث اختيار الملابس والنظّارات. في جميع الأحوال، نحن في مدينة غربيّة غريبة. بينما يقترب الإسرائيليّون من مهاجمة مصر وفرض حظر التجوّل على القرى العربيّة، نرى وقع الاحتلال على جميع تفاصيل الحياة اليوميّة وعلى العلاقة بين الأفراد بانتظار صدور أمر القتل الجماعيّ. فيما تطال السلسلة الإجراميّة المجموعة تلوى الأخرى، يقدّم لنا الفيلم المسؤولين العسكريّين عن المجزرة الذين ستحاكمهم إسرائيل بالتوبيخ أو بالسجن قبل أن يعودوا بعد فترة قصيرة إلى عملهم. لسنا هنا أمام رسم كاريكاتوريّ للعسكريّ الإسرائيليّ كما كان يحدث في موجة الأفلام التجاريّة التي أنتجت في نهاية الستّينيّات في لبنان والتي تناولت الموضوع الفلسطيني بل أمام تجسيد لأسماء حقيقيّة. يحرص الفيلم على عدم الاكتفاء بذكر عدد القتلى بل يلجأ إلى ذكر الأسماء وأعمارهم بعيداً عن الإطار الإخباري حيث يتحوّل عدد الضحايا إلى مجرّد عمليّة حسابيّة.

ينتهي الفيلم برسالة مقاومة تندرج ضمن السينما الملتزمة التي تتعدّد أشكالها في السبعينيّات. لكن لا شكّ أنّ “كفر قاسم” أكثر الأفلام إتقاناً من حيث تفكيك الحدث وإبراز مفاعيل الاحتلال من دون اللجوء إلى الأساليب الميلودراميّة والخطابة الواعظة التي ستُستعمل غالباً لمواكبة العذاب والمجازر. الأهمّ أنّ “كفر قاسم” يثبت أنّ الفيلم الروائي بإمكانه أن يكون وثيقة تُنافس بفعاليّة الفيلم الوثائقي ويقدّم رجالاً ونساءً على قيد الحياة ليسوا مجرّد أرقام أو صور بل شعب يستحقّ الحياة الكريمة. فتأتي هذه الرسالة الأولى لبرهان علويّة من فلسطين المستعادة (سينمائيًّا) على أرض سوريّة وبإنتاج سوري. كما يكرّس هذا الفيلم مخرجه على الساحة العربيّة خصوصاً بعد نيله التانيت الذهبي في مهرجان أيّام قرطاج السينمائية.

مع فيلمه التالي “لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء” (1978)، يذهب علويّة إلى مصر مع لطفي ثابت لتصوير المهندس المصري حسن فتحي. يطرح هذا الفيلم الوثائقي موضوع المدينة العربيّة التي دخلت عليها الحداثة الباطونيّة بطريقة عشوائيّة، فضاعت الهويّة والخصوصيّة. يشير حسن فتحي إلى أنّ المهندسين قد انقطعوا عن تراثهم وأصبحوا مرتبطين فقط بما تعلّموه في الغرب بعيداً عن كل ما أنتجته الأرض المصريّة من مواد محلّية وطرق تعاون وهندسة تتقاطع مع بيئتها. فأصبحت القاهرة غابة باطونيّة كالعديد من المدن العربيّة ومنها بيروت. ولكن أين علويّة من لبنان وما يجري فيه فيما العديد من زملائه الشباب يصوّرون الحرب وانعكاساتها على المجتمع متحدّثين عن “لبنان في الدوّامة” و”تلّ الزعتر” و”أجمل الأمّهات”؟

رسالة من زمن المنفى: ثلاثيّة الرسائل البيروتيّة في زمن الحرب

تتجلّى عودة برهان علويّة إلى بيروت مع “بيروت اللقاء” (1981) ليفتتح مع هذا الفيلم المحوري اللبناني هذه المرّة مراسلات مستمرّة مع المدينة في الثمانينيّات من خلال “رسالة من زمن الحرب” (1984) و”رسالة من زمن المنفى” (1988).

يبدو فيلم “بيروت اللقاء” (1981) وكأنّه أسّس بدوره مشروعاً سينمائيًّا متكاملاً حول المدينة محوّلاً برهان إلى مهندس شبيه بحسن فتحي يبحث عن روح بيروت وهي تتفتّت ووتتشرّد قبل أن ترحل بعيداً. يمكن اعتبار “بيروت اللقاء” من أوّل الأفلام الروائيّة اللبنانيّة التي صُوّرت خلال الحرب الأهليّة . يتناول العلاقة بين زميلين في الجامعة حيدر وزينة وهما يحاولان اللقاء في مدينة مقسّمة إلى شطرين غربي وشرقي خلال هدنة سنة 1977 مع الانتهاء من ما سُمّي بحرب السنتين (1975-1976). هل يتوصّل ابن الجنوب الذي تهجّر من قريته أن يلتقي بصديقته المسيحيّة، ابنة الأشرفيّة التي تتحضّر للهجرة إلى أميركا؟ ينجح الفيلم أن يتجرّد من المفرقعات الحربيّة ليُظهر صعوبات الحياة اليوميّة (تجميع القمامة، مشاكل التموين، صعوبة العبور، زحمة السير، الفقر، سطوة المليشيات) وليدخل بعمق في شخصيّتيّ الفيلم وإمكانيّة التواصل. يطبع الشعور بالغربة الشخصيّتين فزينة (نادين عاقوري) على خلاف مستمرّ مع شقيقها المليشياوي اليميني والذي يمثّل ما كان يسمّى حينها بالفكر الانعزالي بينما يبدو حيدر (هيثم الأمين) وكأنّه مشمئز من الأحزاب وممارساتها والحركات الوطنيّة التي أضاعت البوصلة. يوثّق الفيلم بشكل لافت معالم المدينة والفوضى فيها ووسطها المدمّر والفارغ والذي كان في الماضي القريب مكاناً لللقاء. يحاول حيدر التواصل مع زينة من خلال التلفون ومن خلال عبور الحدود الفاصلة بين شطري المدينة قبل اللجوء إلى تسجيل رسائل صوتيّة على أشرطة ستدوسها في النهاية السيّارات. لكنّ هذه الرسائل الصوتيّة تشكّل العمود الفقري للفيلم (سيناريو وحوار أحمد بيضون) حيث تبوح كلّ شخصيّة بمشاعرها حول الحبّ والحياة والموت. يقول حيدر: “يمكن كلنا متنا شوي، في ناس قتلوهم أكتر من ناس بس بالآخر قتلونا كلنا”. تطغى الوحدة والصراع بين البقاء أو الرحيل لينتهي الفيلم مع انطلاق طائرة شركة الشرق الأوسط من مطار بيروت، مكتفياً بصوتها ومتجرّداً من أي موسيقى تصويريّة. كل شيء يوحي بالنهايات. لم تعد بيروت هذه المدينة التي تتبلور فيها العلاقات الغراميّة كما كانت تصوّرها الأفلام المصريّة. هل أصبحت فقط مدينة الموت؟

لا يتأخّر الجواب أن يصل مع “رسالة من زمن الحرب” (1984) حيث تظهر كل ملامح الدمار والتهجير إثر الحروب المتعاقبة وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982. يتنقّل الممثل رفيق علي أحمد من شاهد إلى آخر يسمع حكايات العذاب، ينظر إلى “آثار” بيروت الغربيّة وضاحيتها الجنوبيّة، يلتقي بالمهجّرين وبضحايا المجازر قبل أن ينتفض أهل النبطيّة في جنوب لبنان على المحتلّ الإسرائيلي. يرتكز هذا الفيلم الوثائقي على كمّية من مشاهد الأرشيف وتغيب عنه لأوّل مرّة رؤية سينمائيّة واضحة من قبل برهان علويّة. فتبدو هذه الرسالة وكأنّها تقرير يجمع مقابلات وأرشيف لينتهي مع يقظة ما سيسمّى بالمارد الشيعي في فيلم من إنتاج “الجمعيّة الإسلاميّة للتخصص والتوجيه العلمي وسنابل للتنمية الاجتماعيّة.”

أصبح واضحاً أنّ البقاء في بيروت مستحيل وعلى حيدر أن يسلك درب زينة ولو لم تأخذه الهجرة إلى أميركا بل إلى باريس أو بروكسل. هذا هو مصير علويّة الذي يترجم واقعه الجديد من خلال “رسالة من زمن المنفى” (1988).

هذه المرّة، لن نسمع صوت حيدر (هيثم الأمين) بل مباشرة صوت برهان علويّة الذي يتحدّث عن ضجيج الحرب، وهو لا يتوقّف منذ 15 سنة. يصوّر علويّة ضجّة باريس وزحمة السيّارات كما صوّر سابقاً بيروت ليحوّل الديكور الفرنسي والبلجيكي إلى مساحة تسترجع فيها شخصيّات الفيلم صورة الوطن. ها هو عبدالله، المقاتل السابق ينظر إلى المترو من مفهوم الحرب اللبنانيّة فالمترو خنادق ومتاريس وخطوط تماس وكأنّ كل شخصيّة تحمل الحرب معها ولو هاجرت بعيداً. أمّا كريم فيعتبر أنّ المترو يلغي خطوط التماس وهو حاجة ملحّة في حال رجعت بيروت. من مترو بيروت “الافتراضي”، ننتقل إلى بروكسل مروراً بأرزتين لبنانيّتين قبل أن نتوقّف عند رزق الله، تاجر السيّارات الذي ينعم بحياته المريحة ويريد جلب شقيقه وعائلته من لبنان فيما نسيم يدفن والده في ستراسبورغ بعيداً عن أرض الوطن. تبدو اللعبة السينمائيّة في هذا الفيلم مثيرة بين اعتماد لغّة الفيلم الوثائقي والاستعانة بالممثلين وامتزاج الأصوات على أرض المهجر وكأنّ بيروت بذاتها أصبحت في المنفى. هناك ملامح حب وتواصل وابتسامة. هناك الأب الذي يتصادق مع كنّته الأجنبيّة التي لم تعد “الغريبة”. هناك عناصر الحياة التي كان فقدها حيدر وزينة. تتوالى هذه الأفلام التي لا تُعرض في بيروت المنهمكة بمعاركها ولكنّ الحرب تنتهي فجأة بعد عامين من “رسالة من زمن المنفى” في نهاية 1990. هل انتهت فعلاً الحرب؟ هل دخلنا في زمن جديد؟ هل يعود المهاجرون ومنهم برهان علويّة؟

إليك أينما تكون: رسالة من زمن إعادة الإعمار

تصل التسعينيّات التي يتبلور معها واقع جديد في منطقة الشرق الأوسط فيتمّ “إنهاء” الحرب اللبنانيّة بتوافق أميركي-سوري-سعودي، وتوُضع محادثات السلام على السكّة بين العرب والإسرائيليين بعد حرب الخليج التي يتطرّق إليها علويّة من خلال فيلم “كسوف ليلة ظلماء” (1991) ضمن الفيلم التونسي الجماعي “حرب الخليج وبعد” .
يتمّ إطلاق مشروع إعادة إعمار بيروت مع استلام رفيق الحريري رئاسة الحكومة اللبنانيّة وتبدأ مرحلة ملتبسة يتحوّل فيها العديد من أمراء الحرب إلى رجال الحكم والاقتصاد تحت وصاية النظام السوري. يتمثّل الهمّ الأوّل بإعادة إعمار الحجر وإزالة آثار الحرب بأسرع وقت ممكن تمهيداً لإعادة تكوين صورة المدينة التي تستقطب بالأخص السوّاح العرب فيما يتكفّل حزب الله في الجنوب بمتابعة مقاومته للاحتلال الإسرائيلي وصولاً إلى التحرير سنة 2000. ولكن تبقى التساؤلات العديدة ولا يغيب القلق الوجودي فالماضي حاضر في الحياة اليوميّة رغم كلّ “الرتوشات” السريعة. تترافق هذه المرحلة مع عودة أركان جيل سينمائييّ الحرب لتصوير الواقع الجديد. أوّل العائدين هو مارون بغدادي الذي يسقط من الدرج بسبب انقطاع الكهرباء وكأنّ المدينة تبتلع مخرج “حروب صغيرة” فتجعله “خارج الحياة” ويصل من بعده الزملاء جوسلين صعب، رندة الشهال، برهان علويّة…

كنت في مطلع العشرينيّات، أعمل على تأليف كتاب عن تاريخ السينما اللبنانيّة وأجري مقابلات مع المخرجين والمخرجات من كافة الأجيال وهكذا تمّ اللقاء ببرهان علويّة. دعاني لمتابعة الاجتماعات التي كان ينظّمها لإقامة صندوق دعم للانتاج السينمائي في لبنان. بدأت أتابع هذه الاجتماعات وأشهد على اندفاعه وما لَبِثَت أن توطّدت علاقتنا خاصةً بعدما أصبح برهان أستاذي في معهد السينما في جامعة القدّيس يوسف-بيروت والمشرف والداعم لفيلمي القصير “ألف ليلة ويا ليالي” (1999) الذي حرص أن أصوّره على شريط سينمائيّ (16 ملم) بإنتاج من الجامعة وأذهب إلى بلجيكا لأتمّم عمليّات الفيلم النهائيّة في المختبر الذي شهد على البعض من أفلامه. بعد العرض الأوّل للفيلم، قال لي: “حان الوقت الآن أن تقرّر إن كنت تريد أن تصبح مخرجاً أم ناقداً”. أجبته أنني أريد قبل كل شيء أن أكون مخرجاً وأن أحافظ على حسّي النقدي. فالجلسة مع برهان علويّة كانت دائماً جلسة تُطرب الفكر من حيث تحليله وتفكيكه للواقع وطرحه الأسئلة الجوهريّة. وكأنّ السينما تعود أوّلاً إلى هذه الجذور قبل أن تلتهي بالتقنيّات وعرض العضلات. كان موضوع “ألف ليلة ويا ليالي” القضيّة الفلسطينيّة في إطار عالم وشخصيّات ألف ليلة وليلة ثمّ تابعت مسيرتي مع برهان وقرّرت أن أوثّق اللقاء مع بيروت وأصوّره في فيلمي التالي: “بيروت… وجهات نظر” (2000)، فشعرت بغصّته أمام مدينة لم يعد يعرفها وسألته عن مصير شخصيّات أفلامه في بيروت الحاليّة فأجاب: “فيي إحكي عن شخصيّاتي ببيروت. إيه بعدها بنفس المصير. بيروت بعدها محل الناس بتفترق فيه وما بتلتقى فيه. بعدها الناس نوع من الشظايا عم تبعد عن بعضها. على كل حال، وقت بتلتقى الناس ببيروت، ما بتلتقي لأسباب إنسانيّة، بتلتقي لأسباب ماديّة صرف. الصداقة، الحب، العلاقات الطبيعيّة، علاقات الغرام، علاقات الرغبة، العلاقات الإنسانيّة، بعتقد محلها ببيروت كتير ضيّق. بدّو الواحد كتير يناضل مشان تيقدر يحتفظ بعلاقة إنسانيّة ببيروت.” وعندما ذكّرته بقول حيدر في “بيروت اللقاء”: “بيروت هل مرّة شي مختلف. مش حبس بس محلّ ما عندي أي مبرّر إطلع منه”. أجاب برهان: “بيروت اليوم هي محلّ كمان ما عندي سبب إبقى فيه. ويمكن في ناس ما عندن سبب يطلعوا منه. بس بالحالتين سجن أو شي بيشبه السجن”.

وثّق برهان علويّة مع “إليك أينما تكون” (2001) جميع هذه الخيبات ورؤيته لواقع ما بعد الحرب. فجاء هذا الفيلم وكأنّه رسالة جديدة تجيب على رسائل الثمانينيّات في مطلع القرن الواحد والعشرين.

بدأ علويّة بتوجيه رسالته إلى كريم، إحدى شخصيّات “رسالة من زمن المنفى” حيث يعلن فيها المخرج إلى صديقه عن قرار عودته إلى بيروت. وها هو اليوم مقيم في بيروت منذ خمس سنوات. عاد برهان ولكنّ ساحة الشهداء لم تعد. ذهبت الأبنية القديمة ورمت بنفسها في البحر فبدت المساحات فارغة وكأنّها لا تختلف عن فراغ وسط المدينة كما صوّره علويّة في “بيروت اللقاء” ولكن مع اختفاء كبير للمعالم. لا شكّ أنّ هذا الفراغ أخاف العائد من المنفى فذهب يلتقي بشخصيّات مختلفة كما كان فعل أيّام الحرب والهجرة. أشار أنسي الحاج إلى أهميّة بيروت كمساحة يجري فيها اللقاء فيما ذكر أحمد بيضون أنّ بيروت فقدت الشيخوخة. توالت الآراء من مارسيل الذي يعتبر أنّ المستقبل معدوم في هذا البلد وصولاً إلى شخصيّات نسائيّة تعيش في الليل فيما أشباح الماضي لا تترك المدينة. ها هي أم عادل ترى رجالاً ورشاشات وأم أحمد ترى ابنها المفقود في كلّ مكان وأحمد ياسين، المرشّح للانتخابات النيابيّة يصرخ أنّ الشعب اللبناني بحاجة ل “خراطة عقول” بينما جوزيف، ملك الليل يجوب شوارع المدينة والمقاتل محمّد عطوي يتحضّر بلهفة لعودة الحرب القريبة. يبدو أنّنا أكثر فأكثر في مدينة الفيلم “الأسود” حيث مات الله وحلّ الفساد وغاب الأمل بالرغم من الشوارع المضاءة ومشاريع الإعمار. من اللافت أنّ علويّة وجد بيروت في باريس وبروكسل ولم يجدها فيما بعد في مسقط رأسها.

بالرغم من هذا المضمون المكثّف والتواصل المتكامل مع الأفلام السابقة، افتقد “إليك أينما تكون” للصورة السينمائيّة في زمن الفيديو ومؤثراته المصطنعة. فلم تختلف صورة الفيلم عن الصورة التلفزيونيّة وبدت أقل فعاليّة من مقاربة المخرج-الشاعر في نصّه وطغت الإضاءة المسطّحة عند تصوير المقابلات مع “الشهود”. لكنّ هذا الفيلم الوثائقي أثبت أنّ علويّة لم يقل كل شيء للمدينة وأنّه كان بحاجة للعودة إلى الفيلم الروائي لينهي ما بدأ به منذ 20 سنة مع “بيروت اللقاء”.

خلص: ختام المشوار

في العام 2003، قصدت ديكور فيلم “خلص” في الأشرفيّة لأصوّر برهان علويّة من جديد ضمن الفليم الوثائقي “سينما الحرب في لبنان”. كعادته، سحرني برهان بأجوبته وبالأخص عندما عاد إلى ذكرى تصوير “بيروت اللقاء” وتساءل إن كان يجدي أن يعرّض حياة ممثّلين للخطر لكي يصوّر شخصيّات فيلم روائي في زمن الحرب. كنّا نتمشّى في أحد ديكورات الفيلم وهو غرفة البطل على السطوح التي تشرف على بيروت وعلى ورشة مجمّع تجاري ضخم غطّ في وسط الأشرفيّة. أشار برهان إلى أنّ فيلمه الجديد يجري في التسعينيّات في مرحلة يعتبرها الدمار الثاني ما بعد الحرب. فبعد دمار الحجر والشعب، جاء دور دمار العلاقات. فقد الفرد صفة المواطنة ليصبح عبداً للمادّة. جسّد علويّة هذه الهواجس في “خلص” (2007) من خلال أحمد (فادي أبي خليل) وروبي (ريمون حصني) وعبير (ناتاشا أشقر). في غرفة أحمد وروبي، توجد صور بيروت القديمة والرفاق الشهداء الذين حلموا في أحد الأيّام بوطن مختلف. في الخارج، تنتشر ورش الإعمار وسط غزو الباطون وتكاثر الأولاد المتسوّلين والقطط التي تبحث باستمرار عن بقايا المأكولات. كتب أحمد على أحد الجدران الخارجيّة: “ممنوع دخول النساء والأحلام والأوهام”. فهو غير قادر على تقبّل فقدان حبيبته عبير التي فضّلت عليه ريمون (رفعت طربيه) بسبب ثروته فتماشت مع المرحلة الراهنة التي تحوّل فيها الزعران إلى رجال أعمال. أمام هذه الغربة مع الواقع الجديد، يلجأ أحمد وروبي بسرعة إلى محاولة تنظيف هذا المجتمع المصطنع وكأنّهما يشكّلان بطليْ فيلم أميركي من موجة هوليوود الجديدة في السبعينيّات حيث كانت الهواجس أيضاً شبيهة مع خلفيّة حرب فيتنام. يسرق أحمد وروبي تاجر المخدّرات، ينتقمان من صاحب المستشفى الفاسد، يلعبان بالدولارات فيعيشان بدورهما الكذبة فيما يقول أحمد: “بيروت بتكذب وبتصدّق كذباتها”. ضمن هذا الإطار، تبدو الحياة في بيروت وكأنّها حفلة تنكّريّة بامتياز فالمقاتلون نزعوا قناع “الثورة” والمقاومة ليصبحوا رجال الأعمال الذين ينوّعون نشاطهم بين العقارات والكسّارات وافتتاح التلفزيونات. يتنكّر أحمد وروبي بالزيّ الخليجي لدخول الفندق في مدينة ارتكز فيها مشروع إعادة الإعمار على اقتصاد ريعي يقوم على جذب المستثمرين الخليجيين وتقديم الخدمات لهم بعيداً عن الحلول الاقتصاديّة المحليّة والمستدامة التي تعيد بناء الإنسان الذي دمّرته الحرب. إنّه عصر الاستهلاك السريع. لتصفية الحساب مع “الثورجي” السابق (حمزة نصرالله)، يضع أحمد وروبي قناع تشي غيفارا بعد تحوّل الكثيرين من اليسار إلى الرأسماليّة الجشعة ومن العلمانيّة إلى الأحزاب الطائفيّة. وسط هذا الانحطاط، يأتي المشهد المحوري الذي يتمثّل بدعوة أحمد وروبي قطط المدينة إلى عشاء موسيقي فاخر داخل آثار وسط بيروت حيث تتمّ ورشه إعادة الإعمار. يختصر هذا المشهد واقع المدينة: أموال مسروقة وثروات حديثة تُصرف بشكل عبثيّ، قطط تلتهم الأكل وتهرب مع نباح الكلاب في مجتمع يتآكل. يعلن أحمد: “هلق عم بشتغل حرامي وماشي الحال” أمّا الأموال الآتية من لعب القمار فهي تصلح لإنتاج فيلم سينمائيّ من بطولة عبير. مقابل هذه الصورة السوداويّة، يأتي ظهور برهان علويّة شخصيًّا بدور والد أحمد مؤثراً للغاية. يبدو وكأنّه سراب من الماضي. إنّه الأب الميّت. إنّه العاطفة التي رحلت. مع اختفاء مظاهر الحب، يصبح على الشخصيّات إعادة تكوين العلاقات الطبيعيّة خارج لبنان، فيسافر روبي إلى تونس مع ابنته لإعادة تكوين العائلة فيما يهاجر أحمد إلى أستراليا بعيداً عن هذا البلد المحاط بالصحراء العربيّة والذي يبدو أنّه تحوّل إلى صحراء عاطفيّة. أمّا عبير فتبقى وحيدة بعدما تأخّرت عن إدراك أهميّة الحب واختارت الارتباط بالمادّة.

منذ أن شاهدت “خلص” في عروضه الأولى ومن ثمّ في عروضه المتكرّرة، ظلّ انطباعي حوله ملتبساً لأنني اعتبرت أنّ فكر برهان علويّة أقوى بكثير من التنفيذ من حيث بناء الشخصيّات وصياغة بعض الحوارات وأداء الممثلين بشكل عام. خلق “خلص” نوع من المسافة مع شخصيّاته كما لم يلجأ إلى التركيبة الفعّالة في أفلام علويّة السابقة التي كانت تحسن مزج العنصر الوثائقي بالروائي. فظلّت علاقتي به فاترة. لكنّ عرضه اليوم يأخذ بعداً آخر فهو يتناول فترةً محوريّة تحضّرنا لفهم ماذا حلّ بنا في الحاضر من مأساة وانهيار تام وتؤكّد أنّ الحرب التي صوّرها برهان علويّة في “بيروت اللقاء” في مظاهرها اليوميّة لم تنته أبداً بل أخذت أشكالاً مختلفة ضمن لعبة تنكريّة استندت فعليًّا على التكاذب والنكران. يأتي الفيلم أيضاً كوصيّة من رائد سينمائي لبناني رأى العالم العربي من منظار واسع قبل أن تتفتّت الصورة أكثر فأكثر لتنهي تدريجيًّا المشروع الكبير فتُختتم الرسائل ويعود صاحبها إلى المنفى.

كان برهان يقول لي لا تنسى أن تخبر طلّابك عن أفلامي ولم أتوقّف منذ أكثر من عشرين سنة أن أنقل تجربة هذا الجيل الرائد. رحل برهان ليلتقي بمارون وجان وجوسلين ورندة. وكأنّ رحيل هذا الجيل المؤسّس يواكب رحيل وطن.

قام نجا الأشقر مع “نادي لكلّ الناس” بالحفاظ على إرث برهان علويّة والعديد من روّاد هذه السينما التي ألهمتنا. ونحن اليوم نختبر من جديد ما قاله، فيصعب علينا اللقاء في بيروت فيما المنفى ينادينا. كم نرغب أن نصرخ معك يا برهان ونقول: “خلص!” فيحطّم صراخنا زجاج قصور الطغاة ويتدفّق إلى دهاليزها.

1- سيناريو برهان علويّة استناداً إلى القصّة التي كتبها عاصم الجندي فيما صاغ الحوار عصام محفوظ.

2- “كفرقاسم” من إنتاج المؤسسة العامّة للسينما في سوريا.

3- ضمن ما عُرف بالعدوان الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بعدما قام الرئيس جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس في العام 1956.

4- يمكن أن نذكر قبله مثلاً فيلم “الملجأ” (1980) لرفيق حجّارعلماً أن أحد أبرز وأوّل الأفلام الروائيّة حول الحرب اللبنانيّة هو فيلم “نهلة” (1979) للمخرج الجزائري فاروق بلوفة.

5- “حرب الخليج وبعد” (1991) فيلم من إنتاج بهاء الدين عطية (تونس) يحتوي على ثلاثة أفلام قصيرة من إخراج نوري بوزيد (تونس)، برهان علوية (لبنان) وإيليا سليمان (فلسطين).

المجموعات