روابط الوصول


سنة مضت على انفجار مرفأ بيروت. 15 سنة على حرب تمّوز الاسرائيليّة على لبنان. 18 سنة على سقوط بغداد بيد الأميركيّين. 40 سنة تقريبًا على اجتياح إسرائيل لبيروت.45 سنة على ما اصطلحنا على تسميته بالنكسة و73 سنة على ما أطلقنا عليه اسم النّكبة وهكذا دواليك حتى سقوط بغداد على يد المغول منذ 736 سنة. إذ ننظر في تاريخنا نجده سلسلةً متواصلة من الكوارث التي قد لا تترك مجالاً لسكّان هذا الجزء من العالم للتّنفّس. هذا تاريخ من الانهيارات التي تركت حتمًا آثارًا كبرى في ذاكرتنا الجمعيّة وصاغت بحكم الطّبيعة والفيزياء والبيولوجيا طريقة تفكيرنا و تفاعلنا العاطفيّ مع كلّ المحفّزات الخارجيّة التي تتلقّاها حواسّنا أو تلك الدّاخلية التي تنتجها عقولنا. نحن اليوم شئنا أم أبينا نتاج هذا التّراكم المدهش من الكوارث لا نكاد نخرج من كارثة حتى ندخل في أختها.

في لبنان مثلاً، إن اخترنا أن ننظر فقط في التّاريخ الحديث لهذا البلد، نجد تاريخًا كثيفًا من الاقتتال الدّاخلي والحروب الخارجيّة، تاريخًا مفعمًا بالقتل والخراب، يمتد من مجازر 1860 ليصل أخيرًا إلى كارثة الانفجار الهائل الذي دمّر أجزاءَ واسعة من مدينة بيروت وشرّد الآلاف من عائلاتها في الرّابع من آب للعام 2020، تلك العائلات التي لم تنسَ بعد هول الحرب الأهليّة القاسية ومفقوديها. لبنان هنا مجرّد مثال يمكن إسقاطه على معظم المجتمعات العربيّة التي عانت وتعاني بدورها تاريخًا طويلاً من الكوارث. النّزيف يتواصل، في لبنان وفلسطين والعراق وسوريا واليمن ومصر والجزائر وليبيا وتونس والسّودان وغيرها. تؤكّد الدّراسات العلميّة الحديثة أنّ الدّماغ البشريّ دائم التّبدّل والتّغيّر وهو يعيد إنتاج وتركيب وتوزيع وصلاته العصبيّة منذ الولادة وحتى لحظة الموت. هذا يعني أنّ الدّماغ قادر على إعادة صياغة الشخصيّة الفرديّة لكلّ إنسان شرط أن تُتاح له فرصة خلق وصلات عصبيّة جديدة يَستبدل من خلالها وصلاته القديمة. ما يخلق الوصلات الجديدة هو سلسلة من التّجارب الجديدة. تتوقّف الوصلات العصبيّة القديمة عن تلقّي ونقل شحنات كهربائيّة فتذبل وتتلاشى لتُستبدل بوصلات جديدة تنقل بدورها الشحنات الكهربائيّة في مسار جديد. هذا بالتّحديد ما يجعل الإنسان قادرًا على تخطّي تجربة ما أو صدمة ما ليعيد تشكيل حياته بشكل يتيح له المضيّ قدمًا. هكذا يحصل التّعلّم أو التّطوّر، أو قد لا يحصل فنجد العكس هو السّائد، أي مسار من التخلّف والانهيار على مستويات عدّة وأهمّها ربّما المستوى العاطفيّ الذي تربط بينه وبين المستويات الأخرى علاقة تفاعليّة عضويّة متينة. قابليّة الدّماغ البشريّ على إعادة تشكيل نفسه، ركن أساسيّ من أركان أيّ علاج نفسيّ ناجح. كيف يخرج الإنسان من صدمة الحرب مثلاً إن كانت الحرب مستمرّة؟ كيف يخرج من صدمة عاطفيّة ما، إن كان يواجه يوميًّا كامل المحفّزات التي أنتجت هذه الصّدمة؟
من ناحية موازية، كلّ تجربة عاطفيّة قويّة تُنتج في الدّماغ تغييرًا في الحمض النّووي. هذا يعني أنّ التّجارب هي تجارب عابرة للأجيال، يحملها الحمض النّوويّ من جيل إلى آخر. أهوال الحرب عابرة للأجيال ليس فقط بفعل السّلوك والتّربية بل بفعل الطّبيعة البيولوجيّة للخلق. هذه حقيقة مروّعة. سيحمل أولادنا وزر حروبنا ما لم نطلق نحن الآن مسار الشّفاء لنستبدل وصلات عصبيّة أضحت مألوفة بأخرى جديدة.

نقول كلّ هذا لنشير إلى أن استجابتنا لأيّ محفّز من محفّزات الحياة اليومية، استجابة محكومة ببنية عصبيّة محدّدة شاركت في إنتاجها كوارث هائلة تمتدّ بعيدًا في تاريخنا. دراسة استجابتنا اليوم لكلّ كوارث الماضي، فكريّة كانت هذه الاستجابة أم فنّيّة أم اجتماعيّة أم سياسيّة، هي مهمّة هائلة لا بدّ أن تتصدّى لها دراسات علميّة متخصّصة على تقاطع اختصاصات عدّة. ما يهمّنا نحن هنا، في طيّات هذه الأسطر القليلة، أن نبني على ما ورد أعلاه خلال مشاهدتنا لأفلام برمجة شهر آب.

السّؤال البديهي الذي يطرح نفسه هنا؛ هل استجابة صنّاع الأفلام التي تناولت انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب مثلاً، استجابة منفصلة عن كلّ ما حلّ بنا من كوارث قبل تاريخ الانفجار المشؤوم؟ هل يمكن فصلها عن حرب تمّوز مثلاً أو الحرب الأهليّة اللبنانيّة وهل يمكن فصل استجابة صنّاع الأفلام التي تناولت حرب تمّوز عن كارثة سقوط بغداد قبل أعوام وهكذا دواليك… (نزعم أنّ أيّ بحث جدّيّ يتناول كامل الأفلام العربيّة التي أنتجت لتتناول كارثة من كوارثنا لا بدّ سيصل إلى نتائج مدهشة قد تجد قواسم مشتركة كبرى بين هذه الأفلام وقد تشير ربّما إلى لغة مشتركة، نقول ربّما لأن بحثًا كهذا لم يحصل حتى اللحظة). لا بدّ من أخذ كلّ ما ورد أعلاه بعين الاعتبار عند مشاهدة مجموع هذه الأفلام وعند طرح السّؤال الذي انطلقت منه هذه البرمجة، أي كيف نصوّر الكارثة؟ نعتقد أن هذه البرمجة قد تشكّل نقطة انطلاق لأيّ باحث قد يرغب يومًا في خوض هذا الغمار. انفجار الرّابع من آب في مرفأ بيروت الذي أعلن صراحة انهيار لبنان، حرب تمّوز الاسرائيليّة على لبنان التي حاولت أن تبني على فكرة الفوضى البنّاءة، سقوط بغداد المدوّي الذي أسّس لهذه الفوضى، بالإضافة طبعًا إلى النّكبة الكبرى في فلسطين التي أطلقت مرحلة جديدة وطويلة من الاستعمار، هي العناوين الأساسيّة لبرمجة الأفلام لشهر آب. هنا فرصة للتّأمّل في كيفيّة تعامل الإبداع العربي مع الكارثة. كيف نفهم الكارثة، كيف نتناولها وكيف نصوّر آثارها في النّفوس؟ هي فرصة لطرح بعض الأسئلة وربّما، نقول ربّما، للبحث عن أيّ أمل في شفاءٍ يمكن أن يفتح باب التّفكير والبناء.

في “بيروت اللقاء”، فيلم المخرج برهان علويّة والذي أنتج عام 1981 ليروي قصّة حبّ مستحيلة إبّان الحرب الأهليّة اللبنانية، يقول الحبيب لحبيبته في تسجيل صوتيّ يرسله لها، ما يفيد بأن قاموس اللغة قد تحطّم ولم تعد الكلمات تشير إلى معانيها الأصيلة، كلّ الكلمات تمرّ عبر حواجز من الخراب والرّكام والموت فتتحوّل معانيها. هكذا وسط الكارثة تصبح اللغة المحكومة بعدد من القواعد التي تجعلها لغة مفهومة، تصبح هذه اللغة شبه عاجزة عن التّعبير في نقل الواقع. تخلق الكارثة من حولها مساحةً من التّشظّي، فكلّ المألوف يتفتّت إلى أشلاء، تفتّتًا مادّيًا وفكريًّا وروحيًّا. حتّى الذاكرة تتشظّى ومع كلّ هذا التّشظّي تصبح أيّ محاولة لصياغة خطّ سرديّ محاولةً عبثيّة. اللغة بالنسبة لنا هنا ليست لغة الكلمات والجمل المكتوبة فحسب، بل كلّ شكل من أشكال التّواصل والتّعبير سواء بالكلمة أو بالرّسم أو بالصّوت أو بالصّورة أو ربّما حتّى بواسطة الصّمت.
انفجار المرفأ في بيروت خلق دائرة هائلة من الخراب المادّيّ وليس من الخفيّ على أحد أن انفجارًا كهذا إنّما يُنتج دمارًا يطال كلّ شيء يقف ضمن هذه الدائرة، ضمن مساحة الكارثة. نحن هنا أمام مساحة لا محدودة تصنعها وسائل التّواصل الحديثة. شاءت الصّدفة، أو ربّما العقل المسؤول عن هذا التّفجير إن كان مفتعلاً، أن يسبقه حريق واشتعال مفرقعات ناريّة لبعض الوقت، ممّا أتاح لعدد كبير من الكاميرات أن توثّق الانفجار الضّخم الأساسيّ وتنقله إلى ملايين اللبنانيّين بشكل بثّ شبه حيّ. هذا يعني أن الصّدمة لم تطل فقط من تواجد في دائرة الانفجار بل اتّسعت لتشمل كامل المجتمع. بلاد بأسرها شاهدت الانفجار قبل أن تشعر بآثاره غير المباشرة بعد أيام وأسابيع وشهور. صدمة جماعيّة حفرت صورها في ذاكرة جماعيّة. هو تشظٍّ أوسع من مساحة الوطن. كلّ من أراد استذكار الانفجار يملك اليوم في ذاكرته صورة واضحة له تشبه إلى حدٍّ هائل صور هيروشيما وناكازاكي. نريد من هذا الاسترسال أن نقول أنّ مساحة الكارثة وهي مساحة غير مادّيّة هنا، أوسع بكثير من مساحة الانفجار المادّيّة. كثيرون ممّن لم يشهدوا الانفجار بأمّ العين يعيشون اليوم صدمة كبرى. وسط هذا الواقع تأتي محاولة بعض صنّاع الأفلام لتناول الكارثة وفي هذه الأفلام يبدو التشّظّي واضحًا. لم تحاول هذه الأفلام أن تعتمد سردًا ما، أيّ سرد، بل تجاهلته تمامًا حدّ تجاهل بعضها للحدث نفسه. هي عدم قدرة على مواجهة الكارثة ربّما أو ربّما هروب منها إلى أعماق ظلام الرّوح، إلى الصّمت، إلى “اللا لغة”. إنّ تشظّي اللّغة والذاكرة يجعل من أيّ فيلم يُصنع في ظلّ الكارثة فيلمًا يشبهها تمامًا. من منّا يقدر اليوم على استرجاع صور الكارثة بشكل منظّم ومنطقيّ. ذاكرتنا مفتّتة، صورة من هنا وصوت من هناك خارج أي خطّ زمنيّ واضح. ذاكرة محكومة بوصلات عصبيّة فوضويّة متناثرة. هذا ما يجعل من الجرح جراحًا متناثرة وعواطف فوضويّة يمكن أن تظهر في أيّ لحظة. محكومون نحن بالتّشظّي ولغة هذه الأفلام متشظّيّة وتحاكي بشكل مذهل تشظّينا كجماعة. حتّى رائحة الزّهور انفصلت عن زهورها. طاقة الانفجار الهائلة انتشرت، وجدت طريقها إلى القلوب وسكنت تنتظر لحظة التعبير عن وجودها، بالغضب، بالأمل، بالعنف، بالموت ربّما، بتحوّل جديد، فكلّ موجود يتحوّل ولا يختفي. خارج الأسئلة البديهيّة التي تطرحها الأفلام، كجدليّات البقاء والرّحيل والموت والحياة والماضي والمستقبل، يظهر سؤال جوهريّ قاسٍ: كيف وأين ستعود هذه الطّاقة لتتمظهر، أفي عنف جديد أم في موت جديد أم في تحوّل ما يقدر ربّما على استخدامها ليبني مستقبلاً، مَهْما بدا مُبهمًا؟ هل ينتج عن هذا الفراغ الذي لا يُحتمل وعن هذا الصّمت الثّقيل، عن محاولة التّعبير هذه، لغة جديدة؟ هل هذا ممكن قبل إنتاج وصلات عصبيّة جديدة، قبل الخروج من الفراغ والصّمت إلى رحاب اللّغة والتّواصل؟ هل نحن في طور ابتداع لغة (سينمائيّة) جديدة؟ الثابت الوحيد الآن أنّ التّعبير عن الكارثة يشبه إلى حدّ كبير الكارثة نفسها. كلّ هذه الأفلام تشهد على حال صنّاعها، تحمل ألمًا قديمًا متجذّرًا وعجزًا هائلاً. التّصالح مع العجز أحيانًا خلاص. هل في هذا نظرة تشاؤميّة أم فيه تحرّر من نوع ما؟

يستدعي انفجار المرفأ بطبيعة الحال كمًّا ضخمًا من ذاكرة الحروب المتواصلة، ويحيلنا شئنا أم أبينا إلى آخر حرب مدمّرة شهدناها، أي حرب تموز من العام 2006 ومنها إلى سلسلة حروبنا الأهليّة الدّاخليّة. أمامنا هنا مجموعة من الأفلام التي حاولت تناول الكارثة أثناء وقوعها وبعده. لا بدّ لنا من أن نعود لنذكّر بأنّ طبيعة ذاكرة الصّدمة طبيعة فوضويّة. وصلاتنا العصبيّة المصنوعة من تراكم الخوف والموت والظّلام، لا تميّز بين مسبّبات حرب وأخرى سواء كانت حربًا وجوديّة مع الخارج أم اقتتالاً داخليًّا عبثيًّا، لا تميّز بين مجزرة وأخرى، لا تميّز بين انفجار سيّارة مفخّخة وانفجار كميّة من النيترات. كلّ هذه الكوارث على اختلافها تشكّل محفّزات واحدة تغذي وصلاتنا العصبيّة المعنيّة بالموضوع وتبقيها حيّة فاعلة. رائحة الموت المنبعثة من تحت ركام حرب تمّوز هي نفسها الرّائحة المنبعثة من اقتتالنا الدّاخليّ، يتعامل دماغنا معها كرائحة واحدة. كلّ صور وأصوات اليوم تستدعي صور وأصوات الأمس، تستدعي ذاكرة قرون من الحروب إذا ما أخذنا بعين الاعتبار طبيعة الصّدمة العابرة للأجيال. لا تختلف أفلام حرب تمّوز عن أفلام انفجار المرفأ كثيرًا. الفرق الوحيد يكمن ربّما في القدرة على توقّع الكارثة وفي توقّع الكارثة تخفيف ولو بسيط لوطأتها. يمكن للمرء أن يستعدّ قدر الإمكان لحرب ما ولكن كيف له أن يستعدّ لانفجار هائل مفاجئ؟ رغم ذلك يبقى التشظّي في هذه الأفلام واضحًا، أمّا الفرق الأوضح فيقع عند المشاهد. نحن اليوم نشاهد هذه الأفلام بعد 15 سنة على الكارثة. إنّها اليوم تذكّرنا بحرب أخرى قادمة، هي وللغرابة تذكّرنا بالمستقبل. هذا ما كان وهذا ما سيحصل! هل نتوقّع الكارثة فنرسم لها شكلاً رغم أنفها، إذ ليس للكارثة أيّ شكل؟ سِمَتُها المطلقة، التّشظّي وليس للتشظّي أيّ شكل. طائر الموت مطبوع في ذاكرتنا، في وصلاتنا العصبيّة ولغتنا محكومة بالتّالي بهذا التّشظّي الذي لا شكل له.

فلننطلق من هنا، لغتنا متشظيّة وهذا ما يميّزها، بمعنى أنّ أيّ تعبير في ظلّ هذا الواقع إنّما يحمل في أعماقه بحثًا دؤوبًا عن لغة والبحث بطبيعته فعلٌ يناقض الجمود ويعلن استمرار الحياة. نجد في هذه الأفلام، في بحثها عن رسم شكل لرائحة الموت، في محاولتها لالتقاط أجزاء من الذاكرة المبعثرة، في سعيها لاسترجاع المفقودين من الأيقونة، نجد فيها إصرارًا على الانتاج، مقاومة، خروجًا من الأيقونة إلى الحياة. كثيرون منّا لا يقدرون على مقاربة الكارثة إلا اللهمّ بعد مضي زمن طويل عليها. قد نظنّ أنّنا نحتاج وقتًا طويلاً لكي نتمكّن من إعادة تنظيم التّشظّي قبل أن ندخل في مسار التّعبير عمّا يختلج في نفوسنا ولكن، أليس التّعبير وسيلة ناجعة لإعادة تنظيم ما تفتّت؟ هذا مجرّد تساؤل قد تختلف الإجابة عنه من شخص إلى آخر لكنّ التّعبير، أيّ تعبير، يخلق بطبيعة الحال وثيقة قيّمة يمكننا مراجعتها بعد زمن علّها عندها تفيد في إعادة تكوين ذاكرة بنّاءة تساهم في مسار شفاء الجماعة ككلّ (إن أبدت الجماعة طبعًا رغبةً بالشّفاء).

نجد مثلاً قيمة وثائق كهذه في الأفلام التي أنتجت لتعالج احتلال العراق وفلسطين. جرحان، كمعظم جراحنا، ينزفان باستمرار. عند اندمال الجرح يبقى أثره ليذكّرنا بما مضى، أمّا الجراح المفتوحة على النّزف اليومي فذاكرتها مختلفة، هي ذاكرة قيد التّشكّل يومًا بعد يوم وسنة بعد أخرى. أيّ وثيقة تشير إلى الجرح المفتوح إنّما تذكّرنا بأنّنا لم نبلغ بعد مرحلة الشّفاء. لذا نقول مثلاً أنّنا لم نملك حتى اليوم فرصة معالجة جراح اجتياح المغول لبغداد وأيّ حديث اليوم عن الاحتلال الأميركيّ للعراق يحيلنا فورًا بفعل طبيعة الدّماغ البشريّ إلى السقوط الأوّل منذ 736 سنة. لا يمكن أن ننظر الإعصار ونحن في داخله، لا يمكن أن نفهم الكارثة ونحن في داخلها، لا يمكن حقًّا أن نفهم التشظّي. لا يمكن لنا حتّى أن نشهد على الكارثة. المشاهدة تتطلّب خروجًا من الدّوامة ومراقبة لها عن بعد. هل هذا ممكن؟ لا ندّعي أنّنا نملك إجابة لكن، لأفلامنا التي نصنع من داخل الكارثة أن تتحوّل هي إلى شاهد على حالنا بعيون أجيال قادمة. هذا ما حاولت ربّما أن تفعله هذه الأفلام. لم تحاول أن تفهم الكارثة، لم تبحث عن إجابات فالبحث عن شكل للتشظّي بحث مستحيل، جلّ ما فعلته هو طرح السّؤال الوحيد الممكن؛ “ما الذي سيبقى بعد الكارثة” ولمن يشاهد هذه الأفلام بعد زمن أن يحاول الإجابة عن هذا التّساؤل متى بدأ الجرح بالالتئام.

اللافت فعلاً عند مشاهدة معظم هذه الأفلام هو المشترك الثابت بينها: فعل الحبّ، بعضه واضح تمامًا وبعضه مستبطن في تفاصيلها ولكنّه موجود بإصرار. لا يمكن مواجهة الفراغ والتّشظي إلا بذاك الشّعور الغريب، العصيّ على التفسير والذي يقف ثابتًا ودائمًا خارج اللغة، الحبّ. ربّما لأنّ اللغة تعجز أمامه تمامًا كعجزها أمام الكارثة، أو ربّما لكونه بطبيعته خارج أيّ شكل. يشبه التّشظي ويقف على نقيضه في الآن عينه. يشبه الفراغ ولكنّه الوحيد القادر على ملئه! هكذا نجد أنّ أفلام هذه البرمجة انطلقت من الكارثة إلى الحبّ، ربّما لأنّها وجدت فيه، بفعل طبيعة الإنسان المتحرّرة من مادّيّة الدّماغ، أي تلك الطّبيعة الرّوحيّة، وجدت فيه قدرةً سحريّة على ملء الفراغ النّاتج عن الكارثة. لذا نقول أنّ الكارثة لم تقدر علينا بعد رغم ضخامتها، لأنّنا مجبولون بالحبّ ومصنوعون منه. هكذا نقرأ هذه الأفلام رغم أنف المقاربة العلميّة لتفكيك وفهم آثار الكارثة.

“كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني”! فعل الخلق في ثقافتنا ينطلق من الحبّ. ليس لنا إلّاه ربّما وهذا ما نراه واضحًا في أفلام هذه البرمجة. وحده الحبّ قادر على تجاوز الكارثة.