روابط الوصول

تصوير الخصوصية، أو تحويل الحياة الشخصيّة والعائليّة الى موضوع سينمائي، ظاهرة موجودة في الإنتاج السينمائي عموماً والوثائقي خصوصاً، فقد أخذ هذا النوع يحتلّ حيّزاً كبيراً في السينما الوثائقية العربيّة مؤخراً، مع التطور التكنولوجي الذي جعل من السّهل نسبيًّا إستخدام أدوات التصوير. تُعزى هذه الظاهرة إلى عدّة أسباب، منها إنتاجيّ ومنها ثقافيّ مرتبط بطبيعة مجتمعاتنا.

الوجه التقني: مع التطوّر التكنولوجيّ وفي بداية الألفيّة الثّانية، ظهرت الكاميرات الصغيرة الحجم التي يمكن الاستحواذ عليها بثمن معقول نسبيًّا ثمّ تلَتها الهواتف النّقّالة الذكيّة ذات الصّورة العالية الجودة، فازدادت العمليّة التقنيّة في التصوير سهولةً، وأصبح إنتاج عمل فنّيّ مصوّر بمتناول الجميع تقريبًا. حرّر ذلك المخرجين في بعض الحالات من وطأة كلفة الإنتاج العالية ومن حاجتهم إلى فريق عمل كبير.

سهّل ذلك بلا شكّ من عمليّة الإنتاج، لكنّه أتى بالطّبع استجابة لحاجة تنبع من ثقافة مجتمعاتنا العربية ومن تراكمات معيّنة تحملها هذه المجتمعات.

الوجه الثقافي: نبدأ هنا بطرح بعض الأسئلة: ما أسباب هذه الظاهرة وهل من حاجة إليها؟ ما يميّز هذا النوع من الأفلام تسليطها الضوء عموماً على “الشخصيّة”، إذ غالبًا ما يؤدّي الأهل والأقرباء، وهم أناس عاديّون لا ينتمون إلى فئة المشاهير والنّجوم، دور الشّخصيّات الرّئيسيّة (إلّا طبعًا في حالات استثنائيّة متى كان صانع الفيلم ابن سياسيّ أو فنّان أو شخصيّة معروفة). غالبًا ما تكون هذه الشّخصيّات إذًا شخصيّات من الحياة اليوميّة ولربّما تحتلّ موقع الوحي الأوّل للمبدع. هذه شخصيّات ترتبط بالواقع المُعاش وبالقصص الغنيّة والمتنوّعة في منطقتنا، وهي في بعض الأحيان قصص تتجاوز بتعقيدها قدرة الأفلام على التّعبير عنها. هي بمعنًى آخر، قصص لو رُوِيَت في أفلام لما صدّقها أحد.

يبرز من بين مسبّبات هذه الظاهرة، معاناة الشعوب العربية معاناة واحدة. عندما يتناول المخرج العربيّ قصّةً شخصيّةً تعنيه مباشرةً، يجد جمهورًا عربيًا واسعًا عانى ما يعانيه هذا المخرج ممّا يجعله أقدر من غيره من الجماهير على التّعاطف مع القصّة بعمق. في هذه الحالة، إن أردنا أن نتحدّث عن سينما ملتزمة، قد يصحّ التوصيف التّالي: هي تشبه في بعض الأحيان الذاكرة الشّفهيّة التي لطالما نقلها الحكواتي وهي ذاكرة يمكن استخدامها في الأفلام كتعويض عن كتاب التّاريخ اللبنانيّ الذي لم يصدر بعد منذ العام 1947، أو عن التاريخ الفلسطينيّ المسلوب والذي عمل بعض الفنّانين على حفظه في تسجيلات أجروها مع النّاجين من النّكبة. هذا ووصلت بلداننا العربية اليوم إلى وضع نسترجع فيه أحيانًا أحداث الماضي ربّما لأنّ الأمس، في عقولنا، يحمل صورة أجمل من الحاضر. هنا نغوص في النوستالجيا.

لن أدخل في تفاصيل التّصنيفات السينمائيّة، إذ تلغي بعض النظريّات في السينما اليوم أيّ حدود بين الروائي والوثائقي. في بعض الأوقات تختلط الأنواع. لكن هذه السينما التي تحاكي الفرد والمجتمع وتغوص في المواضيع الشخصيّة البحتة في معظم الوقت، هي سينما ملتزمة نختار أن نسلّط الضوء عليها اليوم لأنّها وإن كانت تأخذ حقّها في المهرجانات، فهي تغيب أو تُغَيّبْ عن المشاهِد العربي الّذي قد يتعاطف مع هذا النّوع من الأفلام.

عمومًا فإنّ السّينما العربيّة اليوم، باستثناء السينما المصريّة وبخاصّة التّجاريّة منها، تواجه صعوبات كبرى في الوصول إلى جمهورها رغم بعض المحاولات التي تبقى خجولة. لكنّ معظم هذه الأفلام وعلى اختلاف أنواعها، تلاقي ترحيبًا في المهرجانات العالميّة. ترتكز بعض الأفلام على وجوه عربيّة اعتادت عليها المهرجانات وأصبحت معروفة لها وهي أفلام تعالج المواضيع الآنيّة من حروب وأزمات ويمكن أن تقع في خانة السينما المباشرة. أمّا الأفلام الأخرى الخارجة عن هذا الإطار، فتعتمد أسلوبًا فنّيًّا لم يعتَد عليه المشاهد العربي، يُضاف إليها الأفلام التجريبيّة والوثائقيّة الخ.

هذا من ناحية. من ناحية أخرى يمكن للأفلام التي نطرحها اليوم أن تثير الفضول العربيّ بالتعرّف الى البيت والعائلة وهذا يلتصق إلى حدّ كبير بعاداتنا وثقافتنا العربية وهو ربّما من أسباب ظهور هذا النوع من الأفلام.

اختارت هذه البَرْمَجة أنواعًا من هذا الفنّ الوثائقيّ من عدّة بلدان عربية:

بدايةً مع الفيلم اللبناني – “بيت بيوت” لنادين نعوس يجسّد هذا الفيلم لعنة لبنان على اللبنانيّين. نفهم عند مشاهدته كيف وصل البلد إلى ما وصل إليه اليوم من أزمة اقتصاديّة وانهيار اجتماعيّ. نعتقد ألّا وقت أنسب من اليوم لعرض هذا الفيلم، لأنّه من الأفلام التي تحاكي الذاكرة وتوثّق التّاريخ الذي لم يُكتب وقد لا يُكتب يومًا. مخرجة الفيلم تعيش خارج لبنان فهي كالكثير من الذين خذلهم الوطن، اختارت الاستقرار في الخارج. اضطُرّت الظروف الاقتصاديّة الأب والأستاذ إلى بيع المدرسة التي كان يدير في ضاحية بيروت. هكذا يجسّد الفيلم الأزمة الاقتصاديّة التي كانت قد أخذت بالتّفشّي والانحدار النّاجم عنها في القطاع التّعليمي.

نفهم إذًا عند مشاهدة هذا الفيلم الوضعَ اللبناني والتّراكمات التى أودت بهذا البلد إلى الإنهيار. هو من الأفلام التي تنبع من قصّة شخصيّة بامتياز، لترسم مسار وطن وتعالج مواضيع كالذاكرة والتّاريخ.

نستطيع القول بأنّ هذا الفيلم هو من الأفلام التي تنبّأت بما يمكن أن يصل إليه البلد، وهذا تحديدًا، في بعض الأحيان، دور الفنّان في مجتمعه ووظيفة مُنْتَجه الفنّي.

نضيف إلى ما ورد، أنّ إنتاج أفلام من هذا النّوع ليس بالأمر السّهل، فالعمل مع شخصيّات مقرّبة منّا، كأفراد من عائلتنا مثلًا، قد يكون في بعض الأحيان أصعب من العمل مع غرباء عنّا. هنا تكمن أهمّيّة السّينما كمساحة تتيح لنا التّصالح مع فكرة ما أو الإقدام على مواجهة ما. في هذا الإطار تقول المخرجة نعّوس، في مقابلة لها مع قناة فرانس24 حول الفيلم، إنّ الكاميرا منحتها الشّجاعة اللازمة لفتح حوار مع والدها.

فيلم “رحلة في الرحيل” لهند شوفاني

الفيلم الثاني فلسطينيّ، لكنّ مخرجته تقيم بين بيروت وعمّان ودبي وتحمل الجنسيّة الأميركية. أمّا الشخصيّة، الأب هذه المّرة، فهو الكاتب والنّاشط السّياسيّ الفلسطينيّ الياس شوفاني، المقيم في الشّام.

نحن إذاً أمام شخصيّة معروفة. تمّ تناولُ شخصيّة الأب من داخل العائلة ومن قبل ابنته هند بالتحديد وليس من قبل أيّ مخرج يتناول “بورتريه” شخصيّة ما من الشّخصيّات. المخرجة هنا هي الابنة التي تتحدث عن الوالد المعروف وهنا تمكن “الخصوصيّة” في المعالجة.

رحلة في الرحيل هو فيلم للمخرجة والشّاعرة هند شوفاني، يتناول انكسار جيل بكامله عبر قصّة هذا الأب الذي كان من المناضلين الفلسطينيّين المعروفين في الستّينات ورفض التّسوية السياسيّة مع إسرائيل، لأنّ صيغتها تمثّل خذلانًا واعترافًا بتفوّق العدوّ وحقّه وسلطته، فنبذه السّاعون إلى التّسوية.

ساعتان من الوقت يشرح فيهما الأب تجربته، تجربة جيل من المقاومة أصابه الإحباط. بيد أنّ ما يعرضه الفيلم ليس إحباط جيل فحسب، بل إحباط أبٍ أيضًا، نرافقه في منزله في دمشق مرتديًا ثياب النوم ونرافقه في يوميّاته حتّى مثواه الأخير. هذا ويلخّص الفيلم تعدّد المدن الّتي تنقّل بينها الشّتات الفلسطينيّ. إنّها قصّة هذه المنطقة ولعنتها.

“أشلاء” لِحكيم بلعباس في الفيلم الثالث نصل إلى المغرب، مع نوع من السينما يختلف قليلًا عن الأفلام السّابقة في المعالجة، لكنّه يبقى ضمن موضوعنا وفي سياق برمجتنا. على مدار عشر سنوات من التّصوير وعبر فيلم تأمّليّ، يرافق المخرج أفراد عائلته من أعمار مختلفة وفي أوقات مختلفة ولحظات حميمة.

يسائل المخرج، المُقيم بين المغرب والولايات المتحدة الأميركية، تطوّرات الحياة بالنسبة إلى الفرد في المجتمع المغربي، فيتناول عائلته كموضوع. عائلة مغربيّة بكامل عاداتها وتقاليدها وتناقضاتها وحياتها البسيطة من دون أيّ محاولة تجميليّة.

تكمن قوّة المخرج الإبداعيّة في تلقائيّة الشّريط المصوّر، فهو شريط يحمل ثقافةً، رغم كونها محليّة تبقى في الآن عينه كونيّة، بأبعادها الشّعبيّة والثقافيّة والتّاريخيّة. إنّ الشّريط عبارة عن أشلاء متناثرة، لكنّها تحمل في طيّاتها وحدة الموضوع، أي الإنسان العاديّ، ذاك المنسي والمهمّش. كيف يعيش هذا الإنسان مع واقعه ويتلاشى تدريجيّاً مع مرور الزمن؟ احتفظت كاميرا المخرج بقربها من جسد الإنسان وما يُنزِل به الزّمن من تقاسيم وحفريّات. وقفت الكاميرا بشكل دقيق ومطوَّل على الوجوه المليئة بالحزن والتفكير والبؤس، تاركةً لها حرّيّة الاختيار بين الكلام أو الصّمت.

يتشعّب هذا الوثائقي مع أحداث عائليّة تبحث جميعها عن معنى الحياة والموت من خلال أسئلة عاديّة تُطرَح على أناس بسطاء، بما فيهم الأطفال. كيف يرون الحياة وماذا هناك بعد الموت. خلال هذه المحطّات، يحضر الأب بشكل قويّ، بحيث نرى تدهور صحّته تدريجيًّا مع مرور الزّمن، لنشهد تحوّل رجل لم يعد ذاك الذي شاهدناه في البداية. أعطى المخرج لفيلمه بعدًا إنسانيّاً، فلم يعد يقتصر على مجرّد سيرة ذاتية، رغم حضور المخرج الدّائم من خلال رؤيته الشّخصيّة وتحليله للأمور. تناول المخرج هنا حياة عائلته، فجعل من شخوصها الفعليّين موضوعًا لفيلمه بكلّ تلقائيّتهم وعلى طبيعتهم، منذ عشِقَ السينما وهاجر للعيش في أميركا. هكذا يبرز في الفيلم تداخل غير مرئيّ بين ما هو ذاتيّ وما هو مرتبط بالآخر.

يناقش الفيلم صراع الفرد العربيّ على مختلف انتماءاته وسعيه للهجرة ونظرة المواطن الجديدة لواقعه بعد عودته من مهجره.

أمّا في العرضين الأخيرين فنقدّم فيلمين متوسطَي الطول من لبنان. يغوص الفيلم الأوّل، “الحارة” لنيكولا خوري، في النوستالجيا وفي بورتريه عن أولئك النساء المنتشرات في كلّ عائلات مجتمعاتنا. هي العمّة أو الخالة التي وبفعل اندفاعها وعطائها لأفراد العائلة، تلغي نفسها وحياتها فينتهي بها الأمر وحيدة. لكن يبقى لها مكانة خاصّة عند الأولاد. يجسّد الفيلم بشكل غير مباشر ومن غير أن يعلن ذلك جهارًا، المرأة التي عن غير وعي، ترضخ للمجتمع الذكوري وتفرح بالعطاء وتمارس التّضحية وتقتنع بقدرها.

إنّه وثائقي يحمل الحنين، ويعيد الاعتبار لإنسانة عبر المخرج الفنّان الرّقيق، الّذي يردّ لها اعتبارها على طريقته. أمّا الفيلم الثاني”صراع 1949ـــ 1979”، فيلتقي وفيلم نادين نعوس في فكرة المواجهة مع الشّخصيّة الرئيسيّة، إذ يواجه فيه المخرج جوزف خلّوف عبر الكاميرا والده الذي شارك في الحرب الأهليّة اللبنانيّة. هنا تعود السينما لتؤدّي دوراً في مقاربة الذاكرة وخاصّةً تلك المتعلّقة بالمصالحة، الأمر الذي لم تفعله أبدًا سلطة الحكم في لبنان.

يتناول وثائقي جوزف خلّوف الحرب الأهليّة وتداعياتها، علّة الأفراد الذين شاركوا فيها بتطرّفها وعنفها وتوارث الأجيال لها. يناقش خلّوف مواضيع القتل والطّائفيّة وحمل السّلاح، السّلاح الذي ما زال متفلّتًا من أيّ ضابط بعد أكثر من أربعين عامًا على انتهاء الحرب الأهليّة، كما يناقش الثمن الّذي دفعه هو وعائلته، والوضع المادّيّ الذي وصلوا إليه، بسبب مشاركة والده في الحرب الأهليّة اللبنانيّة مع إحدى الميليشيات المتطرّفة.

المجموعات