روابط الوصول

نهضة أفلام الفانتازيا العربيّة

تقدمة مهرجان مسكون

برمجة ومقال: أنطوان واكد، المدير الفني لمهرجان مسكون

لطالما كان اللجوء إلى أفلام الفانتازيا (الرعب، والفانتازيا، والخيال العلمي) عُملةً نادرة في المشهد السينمائي العربي، بالرّغم من أنّ المنطقة تعجّ بالرّوايات الفولكلوريّة الخياليّة عن الجِنّ، والعفاريت، والشياطين، والأغوال…
بين مستقبليّة الخيال العلميّ في الخليج، والأجواء الديستوبيّة في بلدان المشرق العربي وشمال أفريقيا، كان من المتوقَّع أن يتبنّى صانعو الأفلام العرب أفلام الفانتازيا في أعمالهم.

لكن الواقع أنّ حفنةً صغيرة فقط من صانعي الأفلام العرب فهمت القوّة والنطاق اللامحدود الّذي يمكن أن تقدّمه لغة أفلام الفانتازيا، كأداة مقنّعة لمعالجة مواضيع اجتماعية وسياسية مهمّة، عبر استخدام نقاب الرّعب، والفانتازيا، والخيال العلمي. لهذا السبب بالذات، تُعّدّ معظم الأفلام العربية عالقة بين فئتين أساسيّتين: تتكوّن الفئة الرئيسة من الأعمال الدرامية المتعدّدة التي تركّز على القضايا الاجتماعية الغريبة، ويسهل الوصول إليها وإرضاء سوق أو مهرجان دوليّ. فَدوماً ما تعتمد هذه الأفلام على الأموال، والأسواق، والمنتجين المشترَكين، ومستشاري السيناريو الأوروبيّين الّذين، في خضمّ عمليّة تطوير الفيلم وصنعه، يفرضون وجهة نظر غربيّة على المشروع، ما يشبه بشكل غير مباشر استعماراً فنياً جديداً. أمّا الفئة الثانية، فهي في الغالب مروحة قابلة للنسيان لكن ناجحة من أفلام الكوميديا المحلية الّتي يستحيل تصديرها حتى إلى البلدان المجاورة.

لقد قيّد الاعتماد على التمويل من الخارج طيف السينما العربية، وأجبر عدّة مخرجين على الالتزام بقالب معيّن حتى يتمكّنوا من إنتاج أفلامهم.

إذا ما عدنا إلى البدايات، وجدنا أنّ أهم وأبرز صناعة سينمائيّة في الشرق الأوسط جاءت من مصر الّتي أنتجت في عصرها الذهبي عدداً كبيراً من الأفلام الناجحة والمتنوّعة، التي تضمّنت بالطبع باكورة أفلام الرعب والإثارة العربيّة. كان عدد من هذه الأفلام المصرية مستوحىً إلى حدّ كبير من الأفلام الأمريكية الّتي كانت دارجة في تلك الفترة، بل كان بعضها طبعة جديدة غير رسميّة من هذه الأفلام الأمريكيّة.

عندما شرعت السينما المصريّة في خَوض غمار الفانتازيا في البدايات، اعتمدت بدرجة كبيرة على الفولكلور والأدب المحليّين، مع تسليط الضوء على اقتباس ألف ليلة وليلة (1941)، وعلي بابا والأربعين لصّاً (1942) على يد توجو مزراحي رائد السينما المصرية. ويُعتبَر “سفير جهنّم” (1945) فيلماً كلاسيكيّاً آخر من تلك الحقبة، يرتكز على قصّة فاوستيّة من بطولة يوسف وهبي وإخراجه، وذلك باستخدام صُوَر تُعدّ مبتكرة لتلك الفترة، ما فتح المجال أمام عدد من عروض الفانتازيا الأخرى لوهبي. يبرز مثال إبداعيّ آخر هو “حرام عليك” (1953)، طبعة جديدة من Abbott and Costello meet Frankenstein ، بطولة الممثل الكوميدي الشهير اسماعيل ياسين. نتيجةً لنجاح هذا الفيلم، استمرّ ياسين على المنوال نفسه في المزيد من الأفلام المستندة إلى كلاسيكيات الرعب، بما في ذلك زيارة لمتحف الشمع، ومواجهة مع جني، وحتّى طبعة جديدة من الرجل الخفي (Invisible Man). واصلت مصر طوال عصرها الذهبي إنتاج أفلام تجاريّة تحاكي نموذج الرعب الأمريكي، باستخدام الشخصيات الشائعة من الجن، والوحوش، والشياطين، والأشباح لأغراض ترفيهيّة، ما أفضى إلى طبعة مقلّدة رائعة من الأفلام الأمريكية مع إضافة نكهة مصريّة عليها.

من بين صانعي الأفلام الّذين غرّدوا خارج السّرب كمال الشيخ الّذي لُقِّب بهيتشكوك المصري. فقد تمكّن الشيخ بكلّ مهارة من قيادة الدراما المصرية إلى منعطف جديد، من خلال إضافة تحوُّلٍ في أفلام الفانتازيا، وتزويج الدراما الاجتماعية مع الإثارة والفانتازيا والخيال العلمي. كما وقع الاختيار على فيلمَيه “حياة أو موت” (1954) و”الليلة الأخيرة” (1963) للمنافسة في مهرجان “كان” السينمائي الدولي.

يبرز أيضاً مخرج آخر يتميّز بفرادته وهو محمد شبل. فقد كان منذ نعومة أنامله من كبار المعجبين بأفلام الرّعب، ما أدّى به على مدى عشر سنوات إلى إخراج أربعة أفلام رعب مجنونة. عرض فيها صوراً لا يمكن نسيانها، مثل مصاصي دماء يرقصون الديسكو، وماعز تطلق النار بالليزر، والنجمة يسرا تستحمّ في الدّماء.

شكّل فيلمه الأوّل الأنياب (1981) طبعة جديدة غير رسميّة رائعة من The Rocky Horror Picture Show، قدّم فيه عروضاً موسيقيّة من الأكثر جنوناً. اكتسب قاعدة من المعجبين المتحمّسين على مر السنين، وأعيد اكتشافه في عام 2017 عندما تمّ عرضه في مهرجان “فانتاستك فيست” (Fantastic Fest). تتمتّع أعمال شبل الأخرى بالتنوّع ذاته، بما في ذلك أفلام الرعب الخارقة للطبيعة، التعويذة (1987) وكابوس (1989)، وكلاهما من بطولة النجمة يسرا. وكان فيلم الكوميديا السوداء المنحرفة غرام وانتقام بالساطور (1992) فيلمه الأخير قبل وفاته المبكرة بسبب المرض. ويظهر حبّ شبل لأفلام الرّعب من دون أي ريب في كل إطار استخدمه. صحيح أنّه استوحى بشكل كبير من طفرة أفلام الرّعب في ثمانينيّات القرن الماضي، إلّا أنّه تمكّن أيضاً من تمرير رسائل اجتماعية حول الفساد داخل المجتمع المصري.

تمّ صنع عدّة أفلام رعب أخرى خارقة للطبيعة خلال ثمانينيات القرن الماضي. في ما يلي بعض الأفلام الجديرة بالذكر: البيت الملعون (1987) لأحمد الخطيب، مستوحى من Poltergeist وAmityville Horror، وعاد للانتقام (1988) لياسين إسماعيل ياسين، طبعة جديدة، لقطة تلو الأخرى، من فيلم بيتر ميداك The Changeling، والفيلم الّذي قلّد The Exorcist حتّى على شباك التذاكر الإنس والجن (1985) للمخرج محمد راضي، وضمّ ثلاثاً من أكبر نجوم السينما المصرية عادل إمام، ويسرا، وعزّت العلايلي.

علاوةً على مصر، بالكاد دَنَت بقيّة العالم العربي من أفلام الفانتازيا. وإنّما برزت بضع محاولات، مثل فيلم قنديشة الآسر (2008)، للمخرج الفرنسي المغربي جيروم كوهين أوليفر، من بطولة هيام عباس، وأميرة كاسار، مع ظهور ديفيد كارادين كضيف شرف. فقد سعى الإنتاج المشترك مع الفرنسيّين إلى المزج الطموح بين الدراما الغامضة في قاعة المحكمة وأسطورة عائشة قنديشة.

في لبنان، يبرز فيلم أطلال (2006) للمخرج والمؤلّف غسّان سلهب، وهي محاولة أخّاذة وساحرة في مجال الأفلام عن مصاصي الدماء، من بطولة كارلوس شاهين كشخصيّة تشبه مصاص الدماء نوسفيراتو، وتجوب شوارع بيروت ليلاً. كما خاض سلهب في الخوف الوجوديّ الناتج عن انهيار بلاده، مع ثلاثيّته لنهاية العالم “الجبل” (2010)، و “الوادي” (2014) و “النهر” (2021).

كان للسينما الإماراتية، من جهتها، في مسعى لتعزيز الصناعة المحلية، بضع مغامرات في مضمار أفلام الفانتازيا، وهي جديرة بالذكر. تتمثّل الأولى في Djinn (2013)، الفيلم الأخير من إخراج أسطورة أفلام الرعب توبي هوبر (Texas Chain Saw Massacre ،Poltergeist). لكن اشتهر الفيلم بسمعته السيئة بسبب إنتاجه الكارثي، مع شائعات بأن اللقطات الأصليّة اعتبِرت مثيرة للجدل جراء طريقة تصويرها للإمارات، ما استدعى إعادة عدّة لقطات من قبل مخرج إماراتي بدلاً من هوبر. سواء كانت الشائعات صحيحة أم لا، إلّا أنّه سرعان ما تمّ نسيان فيلم Djinn. أمّا حظوظ فيلم “زنزانة” (2015) لماجد الأنصاري، وThe Worthy (2016) لعلي مصطفى فكانت أفضل بكثير لجهة عرضهما في المهرجانات الدولية مثل BFI London Film Festival وFantastic Fest وBeyond Fest.

يمثّل في فيلم “زنزانة” الممثلان الفلسطينيّان صالح بكري وعلي سليمان، في مواجهة داخل زنزانة سجن وجهاً لوجه، حيث يخضع سجين محتجز للتعذيب عن طريق ألعاب منحرفة يمارسها عليه أحد عناصر الشرطة. أمّا The Worthy، أيضاً من بطولة سليمان، فهو فيلم إثارة وتشويق ديستوبيّ يتعلّق بالبقاء على قيد الحياة، تجري أحداثه في عالم تعرّضت فيه إمدادات المياه للتلوّث. يتمتّع كلا الفيلمين بجماليّات وأجواء قويّة، لكن تشوبهما بعض النواقص لجهة تمثيل الهويّة الإماراتية على الشاشة.

ولم تبدأ مقاربة هذا المجال بطريقة مختلفة إلّا مع الجيل الجديد من صانعي الأفلام في السنوات الأخيرة، من خلال استخدام الطيف الواسع الذي تقدّمه أفلام الفانتازيا، كوسيلة للتفكّر في مجتمعهم وهويّتهم. لقد تجرّأت هذه الموجة الجديدة من صانعي الأفلام على كسر القالب، من خلال الانفتاح على الفرص السرديّة غير المحدودة الّتي يمكن أن توفّرها أفلام الفانتازيا. فتملّكوا الصّور الّتي تتكرّر إجمالاً في هذا النوع من الأفلام وأعادوا تكوينها، لتقديم سلسلة من الأفلام الفريدة جدّاً في المشهد السينمائيّ العربي.
وعلى غرار الموجة الجديدة الّتي ظهرت في كوريا الجنوبية، وإسبانيا، والمكسيك، وتشيلي، والأرجنتين، فقد بدأت هذه الأفلام في تنشيط السينما العربية.

رأت غالبيّة هذه الأفلام الجديدة النور في الفترة الّتي بلغت فيها أفلام الفانتازيا أوجَها مؤخّراً، مع اعتناق التغيير في الطريقة التي يُنظر بها إلى أفلام الفانتازيا. على الصعيد الدّوليّ، لقد أصبح الجيل الّذي نشأ على أفلام الرعب والخيال العلميّ من سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي هو المسؤول اليوم عن المهرجانات والأسواق السينمائية. وهكذا فتح هذا الجيل المجال أمام إدراج المزيد من أفلام الفانتازيا في المهرجانات الكبيرة مثل برلين، وكان، والبندقية. ونجم عن ذلك اتجاهٌ سمح بإضفاء الطابع الديمقراطي على أفلام الفانتازيا كشكل فني، بلغ ذروته مع حصول فيلمين من أفلام الفانتازيا على السعفة الذهبيّة لسنتين متتاليتين وهما Parasite (2019) وTitane (2021).

في موازاة ذلك، في العالم العربي، نشأ الجيل الذي يصنع الأفلام حاليّاً على سينما ثمانينيات القرن الماضي أيضاً، وهي كانت حقبة هيمَنت عليها أفلام الفانتازيا إلى حدّ كبير. ولا يخضع هذا الجيل لأعباء الجيل الأكبر منه وواجباته لناحية معالجة تاريخه وإرثه، أو لمسؤولية تقديم وجهة نظر عربيّة في أفلامه. بل أصبح بإمكان الجيل الجديد اليوم استكشاف مواضيع مختلفة تتمتّع بطابع عالميّ أوسع نطاقاً.

ولِدت أفلام الفانتازيا كردّة فعل على كيفيّة تطوّر العالم. ويلجأ بالتالي هؤلاء المخرجون، بوجه الضّياع بين بتر أي صلة مع طريقة عمل أسلافهم، والاستعمار الجديد للأموال والأسواق، وأزمة الهوية العربيّة التي تأثّرت بعالم ما بعد 11 أيلول/سبتمبر والربيع العربي، إلى الخيال الواسع الذي تتيحه أفلام الفانتازيا، لضمان المسافة التي تشتدّ الحاجة إليها ومن شأنها تمكينهم من فهم واقعهم وتقييمه بشكل أفضل.

نشأ المخرج المغربي طلال السلهامي على مشاهدة أفلام الرعب والفانتازيا على شاشة التلفزيون. وكانت هذه الأفلام بالنسبة إليه بوّابة إلى أكوان جديدة وسّعت خياله. فقد قارن السلهامي متجر أشرطة فيديو VHS بمتجر للحلوى، إذ كان يقصده في صغره ويحدّق مذهولاً في العمل الفني على الأغلفة.

بعد نجاح فيلم الرعب القصير للسلهامي Sinistra (2006) في المهرجانات، بدأ فترة تدرّب مع المخرج الشهير نبيل عيوش الّذي أعجِب بمهاراته. واقترح عليه عيوش إخراج فيلم كجزء من سلسلة أفلام كان ينتجها بالتعاون مع التلفزيون المغربي. كانت الشروط مقيّدة للغاية، مع موازنة لا تتخطى 100,000 يورو و15 يوماً فقط للتصوير. انكبّ السلهامي على هذه الفرصة بكلّ حماس، وعرف كيف يستخدم بدهاء هذه القيود لصالحه. فحدّد مكان تصوير فيلمه الأوّل أيّام الوهم (2010) في صحراء ورزازات (مقرّ عدد من إنتاجات هوليوود مثل Gladiator وGame Of Thrones)، حيث يمكنه التوفير في الموازنة باستخدام الإضاءة الطبيعيّة.

يلاحق أيّام الوهم مجموعة من خمس شخصيّات (يمثّل كلٌّ منهم عيّنة من المجتمع المغربي) يتنافسون على الوظيفة نفسها في شركة متعددة الجنسيات. وإنّهم مجبرون على الخضوع لاختبار يقرّر من سيشغل هذا المنصب. فوجدوا أنفسهم محاصرين في الصحراء، يحاولون البقاء على قيد الحياة بالوسائل اللازمة كافّة، فيما يتعرّض كلٌّ منهم للمطاردة من أحلك سراب بالنسبة إليه. ويحافظ إخراج السلهامي البارع على استمرار التوتّر طوال مدّة الفيلم، مع التفكّر أيضاً في كيفيّة تأثّر المجتمع المغربي بوصول الرأسماليّة.

فالمغرب، المتجذّرة بعمق في التقاليد، اهتزّت فجأة بفعل وصول العولمة والرأسمالية. ووقع هذا التحوّل من دون أي انتقال، مؤدّياً إلى فجوة كبيرة بين الطبقات ومصيباً البلاد بانفصام تام. وإنّ هذا الفصام، الّذي يفضي تدريجاً إلى الجنون، هو ما أراد السلهامي أن يلتقطه في فيلمه. بالرّغم من أنّ الفيلم عمره أكثر من 10 سنوات، إلا أنه لا يزال اليوم ذات الصلة كما كان عليه آنذاك. كان العرض الأوّل للفيلم في مهرجان مراكش السينمائي، تلاه عدّة عروض ناجحة في مهرجانات أفلام الفانتازيا. ألحق السلهامي أيّام الوهم بفيلم عاشوراء الطموح للغاية (2016)، وهو فيلم عن وحش، يتطرّق إلى مفهوم الطفولة، استوحاه من حبّه لستيفن كينغ، وجييرمو ديل تورو، وإنتاجات أمبلين.

تجري أحداث الفيلم خلال عطلة عاشوراء في المغرب، وهو عيد يحتفل بالطفولة. يتبع الفيلم أربعة من أصدقاء الطفولة الّذين يلتئم شملهم بعد عشرين عاماً لمواجهة المخلوق الّذي طاردهم في طفولتهم. لجأ السلهامي إلى استعارة الوحش آكل الأطفال، ليبيّن ما يشعر به الأطفال عندما يكبرون وتُلقى على عاتقهم مسؤوليّات الكبار الّتي تُفقِدهم براءة الطفولة وأحلامها. كانت صناعة الفيلم معقدة للغاية وتأخّر إصداره، بسبب العمل الصعب والطموح على المؤثرات البصريّة الّذي لم يكن شائعاً في المنطقة.

تبرز مخرجة مغربيّة أخرى تتمتّع بطموح السلهامي نفسه وهي صوفيا العلوي. حقّق أوّل فيلم قصير لها لا يهمّ إن نفقت البهائم (2020) نجاحاً باهراً في الفوز بجائزة أفضل فيلم قصير في مهرجانَي صندانس وسيزار. في لا يهمّ إن نفقت البهائم، يهزّ وصول الكائنات الفضائيّة إلى المغرب المعتقدات الدينية لقرية صغيرة. فالعلوي مهتمّة أيضاً بالفجوة الثقافية في مجتمعها، لذا تستخدم ذريعة غزو الكائنات الفضائيّة لدعوة المجتمع المغربي إلى التشكيك في نفسه، وتواجهه بمواضيع محرّمة تتعلّق بالصراع بين الدين والعلوم، وكيف يمكن أن يتعايش كلاهما بشكل طبيعي. وتصوّر العلوي حاليّا أوّل فيلم طويل لها Among Us، وهو امتداد لفيلمها القصير، لكن من منظور نسائي وعلى نطاق أوسع بكثير.

في الجزائر، تسكن أشباح الماضي في صميم عمل أمين سيدي بومدين. ويبدأ فيلمه القصير الجزيرة (2012) بوصول رجل يرتدي بدلة فضائية غامضة. يستيقظ على الخور، ثمّ يبدأ بالتجوّل في مدينة مهجورة في تسلسل طويل وتنويميّ لا يكلّ، يسكن شوارع ما بعد نهاية العالم الفارغة، في مدينة ستكشف عن نفسها شيئاً فشيئاً أنّها الجزائر العاصمة. يهدف سيدي بومدين إلى التقاط الإحساس بالنفي، فيصوّر الجزائر العاصمة كمدينة مهجورة تفوح منها رائحة الاستعمار الفرنسي بالرّغم من أنها مأهولة بالكامل؛ مدينة تعاني أزمة هويّة.

يأتي الرجل الغامض من مستقبل قاتم سعياً وراء الحرية وحياة جديدة في الجزائر. ويقلب سيدي بومدين التوقعات من خلال تصوّر أنّ الدول المتقدّمة، في المستقبل، سوف تدمّر نفسَها بنفسِها، وأن شعوبها ستبدأ بالهجرة إلى الجزائر، بالطريقة نفسها الّتي يهرب بها العرب باتجاه هذه البلدان في الوقت الحاضر؛ نوع من نظام عالمي جديد.

في أوّل فيلم طويل لسيدي بومدين، أبو ليلى (2019)، يستكشف المخرج أحلك الفترات في ماضي الجزائر أيضاً، من خلال التركيز على التأثير المستمرّ لسنوات الإرهاب. يُعَدّ فيلم أبو ليلى هلوسة غريزيّة نفسيّة حول عنصرين من الشرطة يعبران الصحراء بحثاً عن إرهابي خطير. إنّ فيلم أبو ليلى، بصوره الغريبة والمخيفة ووتيرته البطيئة، كناية عن رحلة ذهنيّة مليئة بمشاهد الهلوسة؛ إنّه مزيج غير محتمل لكن ناجح من مايكل أنجلو أنطونيوني، وديفيد لينش، تطبعه هويّة جزائرية قويّة. يُغرق الفيلم المشاهِد في نفسيّة بطل الفيلم المصاب بالصدمة، من خلال رسم خطّ ضبابيّ بين الواقع والخيال، للتفكّر في كيفيّة تأثير عنف الماضي في الحاضر. جرى عرض الفيلم لأوّل مرة في أسبوع النقاد في مهرجان كان السينمائي.

يمثّل قنديل البحر (2017) للمخرج داميان أونوري جهداً مذهلاً آخر من الجزائر، وهو فيلم متوسّط الطول عرِض لأوّل مرة في أسبوعَي المخرجين في مهرجان كان. شاركت في كتابته عديلة بن ديميراد التي تؤديّ أيضاً دور امرأة تعرّضت للاعتداء وأعدِمت من دون محاكمة على يد مجموعة من الشباب. ثمّ تعود وتحيا متحوّلةً إلى مخلوق بحريّ، وتتملّكها فورة انتقام من قاتليها. يشكّل فيلم قنديل مزيجاً ملهماً، إذ يمزج بين ظهور المخلوق وأنواع الاغتصاب والانتقام الفرعيّة، والدراما الاجتماعية، للتفكّر في سميّة المجتمع الجزائري الذكوريّ.

تُعدّ الذكورة السامّة قضيّة منتشرة في تونس أيضاً. فبعد فيلم كوثر بن هنية على كف عفريت (2017)، الّذي يروي قصّة امرأة تعارض بيروقراطية غرائبيّة للإبلاغ عن تعرّضها للاغتصاب، حذا اسماعيل ويوسف شابي حذوها مع فيلم ما تسمع كان الرّيح (2021)، ونقلا الأمور إلى مستوى أعلى بعد مع رواية ليلية يطغى عليها الأبيض والأسود، تتبع امرأة فاتنة فتاكة تقتص الحق بيدها من الشوفينية الذكورية. يبدو وكأنّ فيلم ما تسمع كان الريح يؤدّي دور الحلقة العربيّة المفقودة بين A Girl Walks Home Alone at Night، وUnder the Skin، وPromising Young Woman؛ إنّه فيلم نسويّ سوداويّ يمزج بين لحظات عنف جريئة لا يمكن محوها من الذاكرة، وصورة رقيقة وكئيبة عن سوء المعاملة.

أخرج علاء الدين سليم، أحد المتعاونين والأصدقاء المقرّبين من اسماعيل ويوسف شابي، فيلمه الطويل الثاني “طلامس”، ليكون أحد أكثر الأفلام العربيّة تميّزاً وفرادةً في السنوات القليلة الماضية. “طلامس” عمل مذهل بصريّاً ويكاد يكون منيعاً بالكامل من حيث سرياليته. إنّه فيلم آسر يتخطّى كل الحدود، يغرِق الجمهور ويضيّعه في تأمّل حسيّ حول الطبقة والنوع الاجتماعي.

عبد الحميد بوشناق، مستوحياً من قصص حقيقية عن ممارسات السحر التقليدية في تونس، يلحق في فيلمه دشرة (2018) مجموعة من الصحفيين الذين قرّروا حلّ قضية امرأة يُشتبه في أنها تمارس السحر. فينتهي بهم المطاف محاصرين في ريف معزول، موطناً لعبادة شرّيرة.

يظهر دشرة مشاهد مروعة وشنيعة لم يسبق أن رأت مثلها عين في السينما العربية من قبل، هو الفيلم النابع من ردّ فعل بوشناق على مقاطع فيديوهات الإعدام المزعجة لداعش التي تم تداولها عبر الإنترنت، ومن رغبته في استرجاعها لأنّها كانت مسؤولة عن تشويه ثقافته ودينه. إنّ دشرة كناية عن فيلم رعب بحت يستخدم جميع الأفكار المتكرّرة في أفلام الفانتازيا، للتفكّر في الفجوة بين الأجيال، أي بين الجيل الأكبر سناً المرتبط بشكل وثيق بتقاليده، والجيل الأصغر سنّاً الّذي يريد التطوّر؛ لا شكّ أنّ هذا موضوع سائد لدى الجيل الجديد من صانعي الأفلام.

بوشناق، مدفوعاً برغبة حيويّة لصنع فيلمه، راهن عليه بكل شيء: باع سيّارته، وأجّر منزله، وأخذ قرضاً، وانكبّ وطاقمه المخلص على التصوير ولو من دون أي يقين. فكسب الرّهان، حيث أنّ العرض الأوّل لدشرة كان ضمن أسبوع النقاد في مهرجان البندقية السينمائي، مسجّلاً أعلى ربح في تونس، ومحقّقاً الإصدار العالميّ في الوقت نفسه.

تمّ أيضاً اكتشاف فيلم آخر في أسبوع النقاد في البندقية وهو فيلم سيّدة البحر للمخرجة شهد أمين. يروي خرافة حول امرأة سعودية بلغت سنّ الرّشد. وتجري أحداثه في قرية صيد ديستوبيّة يحكمها تقليد أسود يقضي بأن تقدّم كلّ أسرة ابنة واحدة للمخلوقات البحرية التي تعيش في المياه القريبة. لكن أحد الآباء أنقذ ابنته من هذا المصير، فاعتبِرت لعنة على القرية وكبرت منبوذة، ما اضطرّها إلى النضال من أجل مكان لها داخل القرية.

تعَدّ حكاية تحرير المرأة هذه، بِالصور الرائعة بالأبيض والأسود، المليئة بلحظات الواقعيّة الساحرة، قصّةً رمزية لبلد تقمَع فيه النسوية؛ إنّه فيلم آخر تريد فيه البطلة كسر سلاسل التقاليد والذكوريّة. تمّ اختيار سيّدة البحر لتمثيل المملكة العربية السعودية في حفل توزيع جوائز الأوسكار في عام 2020. شهَد أمين جزء من أسرة جديدة لصناعة الأفلام في المملكة العربية السعودية، تحمل على عاتقها ولادة السينما في المملكة. ويعتبَر مشعل الجاسر أيضاً فرداً فاعلاً في هذا الاتجاه الجديد، وذلك بفضل فيلمه العبثي القصير القويّ من نوع الخيال العلميّ Arabian Alien (2020)، الّذي كان عرضه الأوّل ناجحاً في مهرجان صندانس.

تشكّل مشاريع أفلام الفانتازيا في بلاد المشرق العربي عملةً نادرة. ويأتي العمل المتكرّر والأبرز من الفنانة الفلسطينية لاريسا سانسور، التي تستكشف باستمرار مستقبل فلسطين في عدد من أفلام الخيال العلمي القصيرة الرائعة. في لبنان، استغرق المخرج فادي باقي عدّة سنوات لوضع اللمسات الأخيرة على فيلمه المعقّد والرّائع آخر أيام رجل الغد (2017). إنّه وفيلم وثائقي ساخر متوسط الطول يتبع “مانيفيل”، وهو أوتوماتون (تمّ اختراعه باستخدام مزيج مثير للإعجاب من التأثيرات العملية، والدمى، وتقنيات التحريك) كان في السابق من عجائب زمنه، قدّمته الحكومة الفرنسية هديّة للبنانيّين. عاش مانيفيل أيام المجد في عصر لبنان الذهبي، وشهد كيف غيّرت الحرب الأهلية المدمّرة وعواقبها القاتمة البلاد بشكل دائم، وصولاً إلى الوقت الحاضر حيث وجد نفسه صدئاً وفي طيّ النسيان. من خلال دمج مانيفيل في لقطات حقيقية وأرشيف من تاريخ لبنان وثقافته الشعبيّة، أعاد باقي كتابة التاريخ وتأمّل في كيفية انغماس بلاده في الحنين إلى الماضي، وإدمانها على ماضٍ قد تلاشى. يمثّل “مانيفيل” المجتمع اللبناني المَعميّ بأيام مجده الماضية التي تشلّ أي جهود لدمل جروحه الحالية وإعادة تكوين مستقبله.

أدركت المخرجة اللبنانية اليونانية جويس نشواتي أنّ إدمانها على أفلام الرعب عندما كانت مراهقة نبعَ من حقيقة أنها عاشت الحرب عندما كانت طفلة. فأصبح الخوف على الشاشة مصدر راحة بالنسبة إليها. كان أوّل فيلم طويل لها يونانيّاً بعنوان Blind Sun (2015)، تنضح منه الهويّة والأجواء العربية القويّة. نجم ذلك عن تجربة نشواتي كمهاجرة تعيش في أوروبا، حيث شكّل استقرار الحياة صدمة لها مقارنةً مع الواقع المتقلّب كالأفعوانية المناقض له في لبنان.

يروي Blind Sun قصة لاجئ منفرد يُدعى زياد بكري، يحرس فيلا تعود إلى عائلة فرنسية في اليونان أثناء غيابها. في الخارج، سبّبت موجة الحر الثقيلة ونقص المياه حالة قلق وتوتّر للجميع، بينما بدأ أحد عناصر الشرطة في مطاردة بكري. صوّرت نشواتي هذا الكابوس في يونان ما قبل نهاية العالم بطريقة لا يمكن نسيانها، فللصّور صدى كبير يذكّر بموطنها لبنان: ألوان البحر الأبيض المتوسط الدافئة الجافة، والشخصيات التي أنهكتها الشمس، وأزمة الهوية الّتي تدوخ العقل، وصور النار والماء المنقّيتين الّتي ترمز إلى نهاية العالم… Blind Sun إنجاز قويّ يسكن من يشاهده، وحصد عدداً من الجوائز الدوليّة.

بالعودة إلى مصر، ظلّ إنتاج أفلام الفانتازيا التجاريّة شائعاً. ومن بين الأمثلة الأخيرة فيلم من لقطات مسجّلة عن حالة مَسّ بعنوان وردة (2014) من إخراج هادي الباجوري. صُنع فيلم الرعب هذا بكفاءة عالية، لكنّه لا يزال للأسف من الأفلام الّتي تعتمد بشكل كبير على النموذج الأمريكي، فأضاع فرصة إدراج نص مصري ضمنيّ محدّد بين السطور. بعد النجاح الهائل لفيلم مروان حامد الأوّل عمارة يعقوبيان (2006)، تخصّص المخرج في أفلام الإثارة الغامضة التي تتميز بتأثيرات بصرية مبتكرة، مثل فيلم الإثارة النفسي الفيل الأزرق وتتمّته (الفيل الأزرق، 2014، الفيل الأزرق 2، 2019)، بالإضافة إلى فيلم السخرية من المجتمع المصري الحديث “الأصليين” (2017).

رفض هؤلاء المخرجون الامتثال لمجموعة القواعد المفروضة عليهم من الجيل الأكبر سناً ومن مصادر التمويل الدولية، وتجرّأوا على رسم مسار بديل خاص بهم. وقد غذّت تجربتهم، كلٌّ في موطنه الأصليّ، عملهم الّذي تميّز بسِمة مشتركة ألا وهي بتر الصِلات مع نظام تقليدي بائد لا يمثلهم.

تطرح أفلامهم التساؤلات عن الهوية العربية، وتراقب واقعنا الديستوبي، وتجرؤ على التحديق في أشباح ماضينا من دون أن يرفّ لها جفن. وباستخدامهم منظور الفانتازيا والخيال العلمي والرعب، استكشفوا مواضيع المجتمع العربي الذي لا يمكن أن يتطوّر إلا من خلال نبذ النظام الذكوري السام والتطرّف الديني. ما يبدو الآن أنّه جهود فردية متناثرة سيتراكم تدريجاً، ليشكّل موجة جديدة عملاقة لن يكون أمام المنتجين والمموّلين إلّا خيار الانتباه إليها، موجة تحمل بذور ثورة ستُعيد تعريف السينما العربية.