روابط الوصول


تقدمة المورد الثقافي

كتابة علي حسين العدوي

ما (لا) نحب أن نراه هو دوماً بداخلنا

ملاحظات على السينما العربية المعاصرة خلال عقد من الثورات العربية

توطئة
عشيّة الحراكات العربية التي بدأت العام 2010، باتت إمكانية إنتاج صور سينمائية متنوعة ومغايرة لما هو نمطي وسائد ومكرر ومهيمن والذي تنتجه الأنظمة الحاكمة أو رؤوس الأموال الخاصة، واردة وآخذة في الإنتاج والتشكل على مدار أكثر من عشر سنوات.
مع بداية الألفيّة الثانية وبفضل التطور التكنولوجي أصبحت الكاميرات الرقمية متاحة ومنتشرة ورخيصة الثمن نسبيًا. هذا وبفضل التطور المتسارع والتوسع الاقتصادي الرأسمالي لتكنولوجيات التواصل والاتصال، انتشرت الهواتف المحمولة المزودة بكاميرات كما انتشرت شبكة الإنترنت بسرعات هائلة ومضاعفة في العالم كله وفي المنطقة العربية وظهرت تطبيقات التواصل الاجتماعي والتعبير بالكتابة والصورة ثم الصوت والصورة لتعكس ذاتيّات وهويّات متنوّعة ومختلفة ومركبة تتوق للتواصل مع العالم.
بدأ ذلك عبر المدونات وصولا للفيسبوك وتويتر ويوتيوب وغيرها من التطبيقات، كما أصبحت السينما والأفلام المعاصرة حديثة العرض في المهرجانات الدولية والمحافل المختلفة في مختلف أنحاء العالم، متاحةً للتحميل عبر منتديات ومواقع إلكترونية يقوم محبّو الأفلام من خلالها بترجمة هذه الأفلام إلى اللغة العربية.
بالإضافة إلى ذلك، لم تعد خدمة التدريب على صناعة الأفلام تقتصر على المعاهد والمؤسسات التعليمية الرسمية أو الخاصة في أوروبا وأمريكا، حيث احتُكِرت على مدار عقود وحتى أواخر التسعينات الخبرة والمعرفة والأجهزة اللازمة لتعليم صناعة السينما، بل أضحت مطروحة في صورة مناهج ودورات تعليمية تتوفر بغزارة على الإنترنت وعبر المؤسسات الفنية والثقافية غير الحكومية وبدعم من المراكز الثقافية الأجنبية ومن جهات مانحة مختلفة تعمل لدعم حريات التعبير والرأي وتمكين المرأة وتنمية قدرات الشباب ومناصرة التجارب الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان والتعليم البديل.
راح السينمائيون الطليعيون يدرّبون الشباب المتحمس للسينما على إخراج أفلام قصيرة وطويلة، تعتمد بمعظمها لغة وتجارب الحياة اليومية والسير الذاتية، متأثرةً بمرجعيات السينما الفنية العالمية مبتعدةً عن مسلسلات وأفلام التليفزيون ورطانة الخطابات السياسية الرسمية والمعارضة، ضمن ما يعرف باسم “السينما المستقلة”.
أذكر من هذه السينما على سبيل المثال لا الحصر، من مصر فيلم “جزر” لمحمد صلاح إنتاج عام 2008 والذي حصل على منحة من المورد الثقافي وقام بإنتاج فيلم روائي طويل بمساعدة فريق تطوعي من زملائه وأصدقائه السينمائيين والفنانين، قدّم فيه صورة سينمائية تقبض على زمن الملل المباركي بامتياز، عبر شخصيات مختلفة تبدو كجزر منعزلة ومنكفئة على نفسها وفردانياتها داخل قالب من الصور التي تعكس استحالة اللقاء والاجتماع وعنف القهر المركب وضجر الوحدة والانتظار الذي لا ينتهي.

الصور السينمائية وجماليات الثورة
تنطلق الثورات العربية وتمتدّ على مدار عشر سنوات فيخرج السينمائيون إلى الشارع بكاميراتهم ليجدوا أنّ النّاس قد سبقتهم شاهرة هواتفها لتسجّل الحدث وتحرّض على التّغيير وتحشد الجماهير. هكذا وعبر التّدفّق الهائل للصّور والموادّ البصريّة، انتشرت حركات الثورات من ناحية، فيما جرى من ناحية أخرى وفي الوقت نفسه، تسليعها وأيقنتها واختزالها في بعض الصّور والعناوين على وسائل التواصل ووسائل الإعلام العالميّة.
هنا وُلد لدى السينمائيين سؤال محوري: كيف يمكن أن تصل الثورة إلى السينما، إلى اللغة والشكل السينمائيّين؟ كيف تتضامن السينما مع الثورة وتنحاز إليها دون أن تقع في فخّ الدّعاية والبروباغاندا؟ بمعنى آخر كيف يمكن لصناعة سينمائية أن تسائل السلطة دون أن تتحوّل بذاتها إلى سلطة تدّعي صناعة أفلام تقول الحقيقة أو تملك القدرة على منح الصوت والصورة لمن لا صوت لهم؟

لم تعد الأفلام السينمائية التي تسعى لتقديم صور مغايرة ومتنوعة عن الآخر، تواجه فحسب تحديات كمحدوديّة إمكانيات الكاميرات البرمجيّة وشروط إنتاج المادة البصرية وحدود التأطير في تطبيقات التواصل الإجتماعي المختلفة - التي يمكن لها إنتاج صور خارج النمط دون أن يعني ذلك على أي حال أنها مساحة ديمقراطية للتعبير المتنوع - وأجهزة الدولة الرقابية وسوق السينما السائدة،
ولكنها دخلت كذلك الأمر في مواجهة ضد اختزال أي صراع معقد ومتعدد الجوانب إلى ثنائيات كالتي قد نجدها في شبكات الإعلام ومهرجانات السينما الكبرى والجهات المانحة وجهات الدعم والإنتاج المشترك في أوروبا وأمريكا أو في دول الخليج العربي الغنية المشحونة بحركات مجتمعية ولكن ماتزال أنظمتها بعيدة عن رياح التغيير. تسعى تلك الدول للسيطرة على هذه الحراكات ولإنتاج أفلام تحمل أسماء دولها/شركاتها في المهرجانات الدولية الكبرى، مثال فيلم إيليا سليمان الأخير”لابد أنها الجنة” والذي اكتفى بالتهكم على الصوابية السياسية وعلى الإنتاج المشترك النمطي الأوروبي والأمريكي. تحتاج المنطقة لمناقشة مسألة تاريخ وأرشيفات السينما العربية والمصرية تحديدا والتمويل والإنتاج الغربي والعربي بما فيه ذاك الآتي من الخليج. وعليه يمكننا القول أن المنطقة ومشاكلها أصبحت محط أنظار المانحين مع بداية الانتفاضات العربية لتساهم توقعاتها النمطية في إنتاج أفلام “نظيفة” تقنيا وفقا لمخيالات مختلفة، استعمارية أو استشراقية غرائبية، أو وفقا لمصلحة سياسية مباشرة. لذلك فهي غير معنية إلى حد بعيد بالجماليات والشكل الفني المغاير ولكن بالمعلومات والأخبار وإبراز صراع وحله وليس إلقاء الضوء على تعقيداته.
هكذا يمكننا أن نقول أن الصورة السينمائية المغايرة خلال العشرية الماضية قد سارت في اتجاهين، إما في اتجاه مراجعة المستقر التقليدي والنقد الذاتي ومساءلة التمثلات المهيمنة والتي شكّلت تربيتنا الفاشية والسلطوية في المؤسسات الرسمية المختلفة، أو في اتجاه التخييل اليوتوبي/الديستوبي لإعادة التفكير في الواقعي الفعلي. أي ما بين مخيال الواقع الفعلي والأفق السياسي. هذا ما نجده في سلسلة أفلام “بدون” لجيلاني السعدي التي يصورها بكاميرا جو برو Go Pro ليطرح السؤال حول سلطة المؤلف السينمائي وقدرته على إنتاج صور سينمائية مغايرة وتجربة جمالية مختلفة بتكلفة بسيطة وبالشراكة مع الممثلين وذلك خلافا لتجارب أخرى من مصر وتونس وسوريا سعت لتجربة تشاركية شبيهة بتجربة جيلاني في إنتاج الأفلام لكنها لم تنجح في تقديم صورة سينمائية مغايرة بل غالباً ما أنتجت للأسف صورا تقليدية أو نمطية أو سطحية أو مقلدة.
خلافا لجيلاني، نجد أسامة محمد يصر في فيلمه “ماء الفضة” على سلطته التأليفية عبر نص صوتي يعلّق طوال الفيلم على صور أرشيفيّة أعادت إنتاج عنف السّلطة ويضعها في مقابل الصور الغنية والقوية التي صورتها وئام سيماف بدرخان.
بينما في “الرقيب الخالد” نجد زياد كلثوم يتأرجح كما دمشق بين صورتين، صورة في الجيش وصورة في موقع تصوير فيلم محمد ملص، حيث تلتقط الكاميرا الديجيتال الصغيرة المحمولة، تفاصيل ما خلف كواليس فيلم محمد ملص، لتشكّل المادّة الأساسية لفيلم “الرقيب الخالد” ولتسائل سلطة محمد ملص كمؤلف سينمائي عبر كاميرا قررت أن تنحاز للثورة.
نجد هذا الأسلوب التصويري الذي يجعل من الفيلم مجالًا عامًا ومساحة ديمقراطية، في فيلم “لسه عم تسجل” لسعيد البطل وغياث أيوب ، كما نجده في الجزائر مع فيلم لمين عمار خوجة “بلا سينما”، حيث تلتقط الكاميرا الأصوات والصور للعابرين والواقفين في ساحة أمام السينما، كما نجده في مشهد استطلاع الرأي عن الفيلم المفضل من الجمهور في فيلم “الحديث عن الأشجار” لصهيب جسم الباري. هذا ونجد الكاميرا تتحرك خارج المركز مع “أطلال” لجمال كركار و”سمير في الغبار” لمحمد أوزين، وتتحرك في الزمن والمكان في “ثورة الزنج” لطارق تقية، وكذلك في “سبع سنوات حول الدلتا” لشريف زهيري في مصر و”المدسطنصي” و”جمل البرّوطة El Gort” لحمزة العوني في تونس، وفي “العراق “الوطن السنة صفر” لعباس فاضل.
على خلاف طلال ديركي الذي تكبد عناء الذهاب إلى مخيم جبهة النصرة مدعيا أنه صحفي إسلامي ليصور فيلم “عن الآباء والأبناء” ليعيد إنتاج صور العنف التقليدية ذاتها عبر مونتاج مشحون بالعواطف عن أطفال الإسلاميين وحياتهم وحياة الإسلاميين أنفسهم وخيالاتهم الجنسية التي يروجها الإعلام، نجد فيلم “بابل” من إخراج مشترك لإسماعيل ويوسف الشابي وعلاء الدين سليم، كما نجد أفلام علاء “آخر واحد فينا” و”طلامس” والتي تمثل علامة هامة للسينما الجمالية المغايرة في أعقاب الثورات العربية، إذ لا تتعامل هذه الأفلام مع موضوع الهجرة كموضوع لتصوير المعاناة والمشقة بل تأخذها لمساحات مغايرة تمامًا للتعايش والتجربة الأسطورية. نجد كذلك طرح موضوع الحرب وتبعاتها السياسية وصدماتها بشكل مغاير عبر أفلام نوع مثل “فيلم كتير كبير” في لبنان وفيلم “أبو ليلى” في الجزائر.

المهرجانات وشبكات الإنتاج والنقد
يعتمد نمط الإنتاج المعاصر للأفلام ذات الطموح الفني المسار التالي: تنطلق الأفلام من فكرة ومعالجة ثمّ تخضع لسلسلة من معامل تطوير السيناريو التي عادة ما يشرف عليها خبراء ومستشارون أوروبيون، ثم تحصل على إنتاج مشترك، ليتم بعدها تنفيذ الفيلم في فترة محددة ويحرّر الفيلم بحيث لا تتجاوز مدته 90 دقيقة ليقوم بالتالي خبراء المبيعات بعرضه في مهرجانات دولية ويتم نهاية توزيعه.
هذه الدورة الإنتاجية تجعل الأفلام ذات جودة تقنية عالية لكنها تبقى شديدة التشابه في جمالياتها وطريقة سردها بصرف النظر عن سياقات إنتاجها. لذلك، تحتاج هذه الدورة الإنتاجية إلى الكثير من الوعي بالصور السينمائية التي يريد صانع الأفلام إنتاجها لكي يتمكن من التفاوض والمراوغة لإنتاج فيلمه. من المهم هنا فتح النقاش عبر مؤسسات الدعم السينمائي العربي غير الحكومي لتطوير هذة الدورة الإنتاجية وإشراك الكثير من الخبراء والمستشارين من دول الجنوب والعالم العربي.
بات النقد من أهم منجزات الحراكات العربية لمناقشة الصور السينمائية مثل ورشات ملتقى “لمسات أولى” مع الطاهر شيخاوي وإنصاف ماشطة وهاجر بودن، وورشة كراسات السيماتك في مركز السيماتك، وورشات بانوراما الفيلم الأوروبي في سينما زاوية، بالإضافة إلى مواقع مثل ترايبود وترسو، كما أصبح النقد أيضا يتخذ أشكال مقالات فيلمية أو كتابات أدبية تخيلية موازية أو برمجة أفلام. هذا وتمّ نشر دراسات مختلفة عن تمثيلات مختلفة في السينما السائدة، بالإضافة إلى منشورات مجموعة “أبو نضارة” لمناقشة الحق في الصورة وأخلاقيات الصورة وكيف يمكن للصور أن تكون أدوات عنف.

ختاما: يعود الأرشيف.. يعود
يعود العمل على مواد فيلمية وصوتية أرشيفية بقوة بعد تعثر مسار الموجة الأولى من الحراكات العربية حيث يمكن أن نراه في اتجاهين، الأول يحاول البحث في الأرشيف عن منهجية قد تفيدنا في المستقبل وهو ما نجده في فيلم “شعور أكبر من الحب” لماري جرمانوس سابا والثاني يعتمد الحنين إلى الماضي الذي دائما ما يشير إلى مجد نضالي أو كوزموبوليتاني يتم تقديمه في الفيلم محررا بين لقطات أرشيفية مليئة بالأحداث والأشخاص ولقطات معاصرة شبه فارغة من أي معنى.
لكن تبقى منهجية العمل على المادة الأرشيفية نفسها لإنتاج صورة سينمائية متجددة ومغايرة ذات خيال واسع هي المنهجية الأفضل والأكثر جذرية للعمل على المواد الأرشيفية وهو ما نجده في فيلم “استعادة” لكمال جعفري حيث يأخذ أفلام إسرائيلية وأمريكية تم تصويرها في مدينته الفلسطينية ويمحو الشخصيات لتبقى خلفيات المدينة هي أساس صورة فيلمه المحفز لخيال القصص والذكريات. في مثال آخر، يأخد فيلم “فاطمة” للمخرجة الفرنسية الجزائرية نينا خادة صورًا أرشيفية صامتة تظهر فيها سيدة جزائرية من الأرشيف الوطني الفرنسي ويبني منها حكاية عن جدّة المخرجة عبر التعليق الصوتي ليخلق صورة مغايرة وفيلمًا جديدًا.
أمّا فيلم “عندي صورة” لمحمد زيدان فيحاول أن يحكي تاريخ السينما المصرية من وجهة نظر كومبارس من أشهر الكومبارسات الذين عملوا في السينما المصرية، “مطاوع عويس” الذي شارك بالتمثيل في أكثر من 1000 فيلم. يتحرك الفيلم مونتاجيا بين صورتين، صورة يعمل فيها المخرج على الصور الأرشيفية ليضع فيها مطاوع في مركز الصورة وليس في خلفيتها أو هامشها فيما يحاول في صور أخرى وبمساعدة كمال الحمصاني أحد مساعدي الإخراج الأشهر في تاريخ السينما المصرية، أن يجعل مطاوع يمثل بعض الأدوار السينمائية. يتّضح عبر تلك المشاهد كمّ العنف الذي يكتنف تاريخ صناعة السينما.